الانتصار على الحساسية





لم تعبأ انجين كثيرا بنوبات الحكه في جلدها‏,‏ والتورم في جسدها التي اصابتها‏.‏ لكن انجين لم تستطع الاحتمال والتغاضي‏,‏ عندما اصبحت تلك النوبات حاله مستمره من الحك لا تقاومها‏.‏ ولان هذه النوبات تشير الي سبب لدي الفرد لايدركه‏,‏ وذلك ما يجعل من الفرد ضحيه لشيء يجهله‏,‏ ولان المعرفه تحرر الانسان من الالتصاق باعراض الاشياء‏,‏ وتدفعه نحو جوهرها‏,‏ لذا فانه تحت الحاح والدتها وضغطها‏,‏ ذهبت انجين الي الطبيب‏,‏ وقد صحبتها ابنه خالتها اجلال‏,‏ الطالبه بكليه الطب‏,‏ والمقيمه مع الاسره موقتا‏,‏ حتي الانتهاء من دراستها الجامعيه‏.‏
وتكشف لوحه المقارنه التي طرحتها انجين بينها وبين اجلال عن خصوصيات طباع متناقضه‏,‏ اذ تقر انجين انها بقدر ما كانت هادئه ومتزنه‏,‏ وحريصه في سلوكها‏,‏ كانت اجلال مرحه وهوائيه المزاج‏,‏ منطلقه‏,‏ لاتقيم وزنا لتصرفاتها‏,‏ فقد كان مبدوها انها تعيش لنفسها فقط‏.‏ تري هل هذا التوصيف يتسم بالموضوعيه‏,‏ او انه محض تصورات انجين عن نفسها وعن اجلال‏,‏ مخبوءه في اعماقها‏,‏ ولا علاقه لها بالحقيقه اصلا؟ واذا ما كان توصيف انجين صحيحا وموضوعيا‏,‏ كيف تبدت تلك التناقضات في خيوط امتداد علاقتهما؟
ادعت انجين انها لاتدرك معني تشخيص الطبيب لحالتها‏,‏ بانها تعاني نوعا من الحساسيه‏,‏ التي تمثل ضعفا في مقاومه الجسم تجاه بعض المواد العضويه‏,‏ او غير العضويه‏,‏ حيث يتجلي رنين هذا الضعف في اعراض نوبات الحك والتورم‏,‏ وتكمن المفارقه في ان هذه الاعراض هي محض اعلان عن رفض الفرد مجاوره هذا الموثر او تعاطيه‏,‏ لكنها مع ذلك لا تعلن عن تحديد نوع هذا الموثر المرفوض الذي لايمكن تجاهل تاثيره‏,‏ حيث يظل الجسم في حرب سجال‏,‏ وصراع مستمر مع ذلك الموثر‏,‏ حتي يتخلص من تلك الحساسيه بمعرفه السبب والامتناع عن التعرض له‏,‏ ولان الطعام لاتذهب اثاره بذهابه‏,‏ اذ يحتفظ الجسد بذاكره اثاره‏,‏
لذا سالها الطبيب عن نوع الطعام الذي تكثر من تناوله‏,‏ اجابت انجين انها ليست مفرطه في الاقبال علي طعام معين‏,‏ فهي تاكل ما ياكله الناس‏.‏ ويبدو انها لم تكن تدرك ان قوه المناعه لدي كل فرد تختلف عن غيره‏,‏ وان السبب في الحساسيه يختبيء اساسا في مناعه الفرد وخصوصيتها نفسيا او جسديا‏,‏ وليس فيما يوكل‏,‏ او يشم‏,‏ او يجاور‏,‏ او يلامس‏,‏ حيث لايتعايش اي فرد مع ما ليس موهلا للتعامل معه وفقا لخصوصيه تكوينه‏.‏ ولان اجابه انجين كانت فوريه‏,‏ اذ انزلقت دون تفكير‏,‏ ودون اي مراجعه لذاتها‏,‏
لذلك علي الفور اخبرها الطبيب ان رهان شفائها‏,‏ يعتمد بالاساس علي مدي ما تغدو حياتها موضوع رقابه ذاتيه‏,‏ وتمعين واع‏,‏ اذ مرض الحساسيه تتجلي غرابته في انه يتشبث باستعصائه علي التحديد والتعيين‏,‏ من دون الجهد الايجابي للمريض نفسه في ترصده لذاته‏,‏ وادراكه ان تحرره من المرض يرتبط بممارسته الذاتيه في مراقبه سلوكه‏,‏ عندئذ يستطيع ان يعرف سبب مرضه‏,‏ ثم طلب اليها الطبيب ان تدون بدقه علي مدي اليوم‏,‏ ما تاكله‏,‏ وتشربه‏,‏ وتلبسه‏,‏ وما تلمسه من المواد‏.‏ لاشك ان ما يطلبه الطبيب من انجين يعني تثبيت سلوك يومي قائم علي الانتباه والمراجعه‏,‏
لكن اجلال جاهرت بالكشف للطبيب عن سمه اساسيه في شخصيه انجين‏,‏ بانها كثيره النسيان بشكل عام‏,‏ حتي انها تنسي ما اكلته في غضون دقائق معدودات‏,‏ بالطبع ضاقت انجين وعبست مما عدته كلاما غير لائق عنها امام الطبيب‏,‏ وان لم تنف ما اتهمت به‏.‏ تري هل اصاب كشف اجلال عصبا عاريا لدي انجين؟ تري هل النسيان لدي انجين يوعز الي اسباب طبيه‏,‏ او انه محض حيله نفسيه تلجا اليها‏,‏ بوصفه نوعا من التناسي المفتعل‏,‏ تنفي فيه انجين نفسها عن نفسها‏,‏ في سياق ممارسه عنيده‏,‏ ترفض الانتباه لخبرات سجلتها حواسها‏,‏ وتتغاضب عن مراقبتها‏,‏ حتي وان شكل ذلك وضعا مازوما‏,‏ يتطلب المواجهه بالانتباه‏,‏ والتذكر الواعي‏,‏ والمضاهاه‏,‏ والمقارنه‏,‏ وذلك رغبه منها في استمرار وضع ما؟
اقصي الطبيب انجين عن القيام بمهمه التدوين لنفسها‏,‏ نتيجه اتهام اجلال لها بكثره النسيان‏,‏ وايضا استنادا الي معرفته ان مرافقتها اجلال تدرس الطب‏,‏ لذا فقد طلب اليها ان تسهم في علاج قريبتها‏,‏ بان تتولي تسجيل كل ما تاكله او تشربه او تلمسه‏.‏ علي الفور القت اجلال علي الطبيب سوالها الاستفساري المفاجيء‏,‏ المصحوب بابتسامه خبيثه موحيه‏,‏ لتحصل علي اقرار من الطبيب بان اللمس منفتح علي كل شيء‏,‏ ومشروط كذلك بملامسه البشر‏,‏ وهو ما وافقها الطبيب عليه‏.‏ يظل سوالها محتفظا بفجائيته‏,‏ ويستدعي سوالا‏:‏ تري هل كانت اجلال تدرك تحديدا اسباب الحاله التي تعيشها انجين تحت ضغوط وضعها المازوم‏,‏ وتدرك نتائجه؟
صحيح ان اجلال بممارستها لمهمتها انما تحمل مشروعا تنويريا للتصالح بين انجين ووجودها الانساني المستعصي بعذابها‏,‏ ورهان هذا المشروع هو ادراك انجين بنفسها سبب عذابها‏,‏ ثم قيامها بفعل لاتكره عليه‏,‏ يتيح لها ان تكون في استطاعتها وحدها‏-‏ اقتناعا وطواعيه‏-‏ اتخاذ قرار بارادتها للتخلص من سبب مرضها‏.‏ لكن الصحيح ايضا ان انجين كانت تبدو كانها تحاول تعطيل المشروع او ارجاءه‏,‏ وذلك بنبذها الاطمئنان الي ممارسات اجلال لمهمتها‏,‏ بطرحها اتهامات ضدها متعدده‏,‏ تحت عباءه شعارات خاويه‏,‏ سواء بالسخريه من ادائها‏,‏ او ادانتها بالتسبب في مواقف محرجه‏,‏ او وصفها بالشيطان الاعمي‏,‏ او التشكيك في سلوكها بالاشاره الي انها تستعرض ضروب مهاراتها المتعدده امام خطيبها‏.‏
لاشك ان انجين كانت قد رسمت صوره منفره عن اجلال‏,‏ واقنعت نفسها بتلك الصوره‏,‏ وعاشت تحت وهم خداع الذات‏,‏ تتخيل نفسها الاكثر تفوقا وتميزا‏,‏ اذ لامكان في داخلها الا لنفسها‏,‏ لكن استمرار نوبات الحك الدائم لجلدها‏,‏ عزلها عن الاخرين‏,‏ وافقدها اراده الاقتدار‏,‏ فانهارت تصوراتها عن نفسها‏,‏ ولاشك ان اندفاع اجلال في رحله مرافقتها لها‏,‏ برغبه في العطاء لاتحد‏,‏ وصمود للانتصار في مهمتها‏,‏ اتاح لها ايقاف سموم الاساليب الايحائيه المغيبه للعقل في ملاحقه الاحساس بالواقع‏,‏ وادراك الحقائق‏,‏ كما اثبت لانجين ان الفرديه المطلقه‏,‏ والانكفاء علي الذات‏ هما موقف معاد لفهم معني الانسانيه‏,‏ بوصفها طريقه معامله الناس‏,‏ سواء الذات او الاخر‏,‏ معامله يديرها تفكير عقلاني يحكم‏,‏ ويقيم‏,‏ ويدين‏,‏ لكنه ايضا محرك للاراده والواجب‏,‏ لذا فقد بدات انجين في مواجهه نفسها‏,‏ واقرت ان نوبات الحساسيه كانت تتعمد ان تصيبها في اثناء وجود خطيبها‏,‏ ثم للمره الاولي تعلن لنفسها عن ارادتها في التخلص من سبب مرضها‏,‏ حتي لو كان اغلي ما في حياتها‏,‏ ولان اختيارات الانسان تتخذ في ضوء التاريخ المنصرم‏,‏ لذا فقد امتلكت انجين ذاكرتها‏.‏ لكن تري هل مازالت انجين في حاجه الي برهان لتصل الي يقينها؟
حضر خطيب انجين لزيارتها‏,‏ لم يكن بالمنزل سوي اجلال وانجين‏,‏ جلس ثلاثتهم يقضون وقتا مرحا‏,‏ وعندما امسك الخطيب بيد انجين‏,‏ فانها علي الفور‏,‏ لم تستطع منع نفسها من حك جلدها‏.‏ بعد انصراف الخطيب‏,‏ واجهت اجلال ابنه خالتها بجلال الحقيقه لحظه مخاضها‏,‏ وذلك ان خطيبها هو سبب مرضها‏.‏ تجمدت انجين في مكانها‏,‏ تركتها اجلال بعد ان انارت امامها طريقها‏,‏ واصبح برهان يقينها حاضرا‏,‏ وذلك لتكون وجها لوجه مع عزله المواجهه‏,‏ اذ ادركت اجلال ان مهمتها قد اكتملت بنجاحها‏.‏ حبست انجين نفسها في غرفتها‏,‏ وراحت تدير كل احتمالات حياتها المقبله‏,‏ ادركت عجزها عن استمرار حياتهما معا‏,‏ وان الانكار لن يعصمها‏,‏ والغضب لن يحمي مستقبلها‏,‏ او يرفع عنها مسئوليه مصيرها‏.‏ اخبرت خطيبها بقرارها‏,‏ ذلك انه يحمل صفات ليس هو صانعها‏,‏ لكنها تدعم انسداد حياتهما‏,‏ وتعوق مستقبلهما‏.‏ صحيح انها انفصلت عنه وقد كظمت مشاعر الغضب‏,‏ والفقدان‏,‏ والعجز‏,‏ لكن الصحيح ان عدم القدره علي فعل ما عقلاني يحمي المستقبل‏,‏ لهو العجز بعينه‏,‏ والعبث‏,‏ بل هو جحيم لا ينتهي‏.‏
----------------------------
ان الكاتبه التركيه صباحات امير‏1943,‏ في قصتها الحساسيه‏,‏ تطرح قضيه العلاقات الملتبسه المولده للتناقضات في الواقع الاجتماعي‏,‏ سواء تجلت في قناعات بافكار‏,‏ او في استسلام لهواجس‏,‏ او في اشكال من علاقات اجتماعيه‏,‏ تحمل ما يهدد بالمعاناه والعذابات‏,‏ مستقبل الانسان ووجوده‏,‏ حيث يعطل كل تباشير الخلاص من هذا التناقض‏,‏ انغلاق التفكير‏,‏ ومجافاه العقل‏,‏ ومعاداه كل الروي العقلانيه‏,‏ وذلك بتواطو اصحاب تلك العلاقات الملتبسه لاستمرار العيش في اسر استيهامات‏,‏ واوهام‏,‏ وخداعات‏,‏ اصبحت ادوات ثقتهم بالواقع‏,‏ في ظل هيمنه النسيان‏,‏ والتعامي عن مراقبه الذات‏,‏ وغياب الانتباه عن تجليات السلوك‏,‏ والانهمام المرضي بالذات بوصفها الاكثر تفوقا وتميزا‏,‏
ثم الاستغراق في انشغالات محورها معاداه الاخر‏,‏ والاصرار علي استمرار العلاقات المقلوبه‏.‏ لكن الكاتبه ايضا في قصتها انتصرت للعقل‏,‏ اذ عندما نجحت رحله التنوير التي لم تتجاهل حق الفهم‏,‏ وتحررت الذات من القيود‏,‏ فعاد العقل الي قلب الاحداث‏,‏ وتبلور وعي عقلن الاسباب‏,‏ وفهم الغايات‏,‏ وشحذ الاراده‏,‏ عندئذ حلت الممكنات محل الواقع‏,‏ فاعادت تنظيم الواقع المتناقض‏,‏ لحظتها برات انجين ونجت من المصير المشئوم‏.
---------------------------

بقلم أ.د/فوزي فهمي
جريدة الأهرام عدد الأثنين 30 نوفمبر 2009

تعليقات