دأب الغراب

(4)

في منتصف الشهر الثاني؛ كان أبو خميس قد ألف الأعمال المنزلية، بيد أنه لم يكن قد تأقلم تماما مع أعراض الحمل. ثدياه اللذان كبرا بسرعة الأيام الماضية، حملاه على ارتداء حمالة صدر لمدة نصف ساعة، قبل أن يقاطعها للأبد، لأنه ما بيحبش الكتمة. في المقابل، احترفت أم خميس حلاقة ذقنها دون أن تصاب بجروح، تصلبت عضلاتها من حمل الفأس وأعمال الحقل ورعي الماشية .. في الشهر الثالث أدمن أبو خميس الجلوس عند الترعة والنميمة مع النسوة، تمرست أم خميس على تدخين الشيشة مساءً في الخـُص دون أن تصاب بدوار، واتقنت إلقاء النكات الجنسية البذيئة .. ذات مساء، حدث شجار بين الزوجين، تدخل الجيران، توسطت أم خميس الرجال في مضيفة الدار، وبصوت أجش عالٍ مغلف بالتماهي قالت: حتى حقي الشرعي مش عارف أطوله منه!! يعني لا مكيفني راجل ولا مهنيني مرة!! أنهت جملتها وهي ترفع الجلابية قصدا ليرى الحاضرون حجم الذي نضج وتدلى، اختلست النساء النظر وهن يطيبن خاطر الزوج الباكي.

*****

غادرت النساء دار أبو خميس وما برحت ألسنتهن تنهش في سيرته وزوجته، اجتمعن في عـُلية دار الكبير بعد ذهاب أزواجهن للتحشيش (كالعادة) في الخـُص الكائن أسفل شجرة الجميز .. عشنا وشفنا الرجالة تخلف والحريم ما تحبلش .. فطنت زوجة طباش إلى التلميح فجذبتها من شعرها: أنتي بتعايريني يا أم ضمة؟؟ طب والنبي لأنسل الشبشب على جتتك .. صاحت فيهما الكبيرة: اتلمي يا مرة منك ليها، بدل ما تناقروا في بعض اتشطروا ع اللي كان السبب!! .. قصدك مين؟؟ .. أبو خميس طبعا، مين يضمن أن رجالتنا ما تقلبش ستات زيه بعد ما يخلف؟؟ .. يا لهوي؟؟ .. خليهم يقلبوا بلا هم، علشان يحسوا بالمرار اللي طافحينه .. وهما لو خلفوا هيحتاجونا في إيه بعد كده يا فالحة؟؟ .. يعني هما هيحبلوا كده لوحدهم؟؟ أكيد احنا كمان هنقلب رجالة ساعتها .. طب وافرضي بقى ما قلبناش وبقينا كلنا زي بعض؟؟ .. يا دي الحوسة!! .. يا ستي فال الله ولا فالك .. أنا مش فاقعني غير المخفي جوزي، إلا ما نزل عينه من على أبو خميس طول ما احنا قاعدين .. هو جوزك لوحده؟؟ كلهم يا أختي كانوا قاعدين ناقرينه وبيفصصوا في جسمه، رجالة عرر ما يملاش عينها إلا التراب.. العيب مش عليهم، العيب ع البجح قليل الحيا اللي كان قاعد بقميص النوم .. شفتوا الفاجرة أم خميس لما شلحت الجلابية؟؟ .. إمتى ده؟؟ .. (صوت من الأنف) أنتي هتستعبطي؟؟ ما كلكوا بصيتوا وتنحتوا زيي .. (ضحكة جماعية رقيعة) .. حسرة علينا وعلى بختنا!! فالحين بس يعملوا علينا رجالة .. أنا باقول نعلم أبو خميس الرقص علشان يكسب ود مراته .. والنبي فكرة، آهو ناخد فيه ثواب، قالتها الكبيرة بمكر .. زوجة طباش: بس ده حامل؟؟ .. وفيها إيه؟؟ ما احنا ياما شيلنا في بطوننا وفوق روسنا ولا جرالنا حاجة، ثم استدركت أم ضمة وهي تعطيها ظهرها: وحتى لو سقّـّط يبقى خير وبركة، ع الأقل ما فيش واحدة جوزها يعايرها بعد كده. قامت زوجة طباش تردعها، فأجلستها الكبيرة: اسمعي الكلام، وبعدين أنتي فكرك الرجالة هيسيبوا أم خميس تبقى زيهم كده؟؟

*****

لأ طبعا مش هنسيبها تطيح في جوزها كده!! قالها أبو ضمة وهو يلف سيجارة حشيش .. رد الكبير: يا حمار أنا مش قصدي على كده، ما تولع هي وجوزها، أنت ما خدتش بالك لما رفعت الجلابية؟؟ .. طباش: أقطع دراعي أنها ما عملت كده إلا علشان تصغرنا قدام حريمنا!! .. أبو ضمة ساخرا: تصغرك أنت يا حبيبي، اتكلم عن نفسك .. هب طباش غاضبا ورفع جلبابه: تحب أوريك؟؟ .. جذبه الكبير من كُم جلبابه وأجلسه: بدل ما تتحمق كده وتوريه، قول لنا هنعمل إيه في المصيبة اللي شلحتنا كلنا دي؟؟ .. أبو ضمة: لا مصيبة ولا حاجة يا كبير .. إزاي بقى يا فالح؟؟ .. أنتوا ما خدتوش بالكوا أنها مش مطّاهرة؟؟ .. أنت متأكد؟؟ .. إلا متأكد، أنا خدت بالي ودققت كويس .. انتهز طباش الفرصة ليأخذ بثأره: وكنت بتدقق ليه بقى إن شاء الله؟؟ بتتوحم؟؟ .. اعتدل أبو ضمة في جلسته واقترب منه متوعدا، إلا أن الكبير جذبه ناحيته وعاجله بسيجارة ليلهيه ثم قال: بكرة الصبح نخلي نـُصحي الحلاق يطاهرها هنا في الخُص، وتبقى دي هدية عيد الأم .. (ضحكة جماعية مصهللة).

*****

(5)

واجه خميس مأزقين يوم عيد الأم، الأولى: في المدرسة، أثناء حصتي التعبير والرسم، إذ لم يعرف هل يكتب عن أمه التي أنجبته أم عن أبيه الذي يرعاه الأن وحامل في شقيقه؟؟ ومن يرسم فيهما؟؟ استقر بعد تفكير أن يكتب عنهما ويرسمهم جميعا وهم جلوس أسفل شجرة الجميز يتناولون الغذاء في سعادة .. الثاني: الهدية؛ ماذا سيشتري؟؟ ولمن فيهما يعطيها؟؟

*****

في طريقه إلى دكان الأسطى نـُصحي لم يترك أبو ضمة فردا في القرية إلا وأبلغه بالحدث الذي سيقام ظهرا في الخـُص، والحاضر يعلم الغايب، علشان ما حدش يعتب عليا بعد كده ويركبني حق ويقول ما بلغتنيش ليه يا أبو ضمة، اللهم بلغت اللهم فاشهد .. الخبر العجيب أيقظ شيطانة الشعر عند سامي بوستة الذي كان نائما في شرفة بيته ووجهه مغطى بجريدة قديمة، إذ أنه منذ أحيل للتقاعد (كان بوسطجي القرية ومذياعها) قبل شهرين، لم يؤلف بيت شعر واحد كما كان يفعل يوميا أيام الخدمة، وعلى الفور أخرج سيجارة بلومونت من جيب البيجامة الكستور وأشعلها ثم أمسك بالورقة والقلم وشرع يكتب في حماس.

*****

بت يا ضمة!! يا ضمممة!! .. نعم .. روحي لخالتك أبو خميس وقوليلها أننا قاعدين مستنيينه يوه قصدي مستنيينها .. مستنيينها ولا مستنيينه؟؟ .. اجري يا بت بطلي لماضة.

*****

عهِد الكبير مهمة إبعاد أم خميس عن القرية إلى طباش، بشراء خروف من سوق القرية المجاورة، وفاء لنذر عليه، كي لا ترتاب في الأمر عندما ترى الحشد المجتمع، وحتى يحد من شجار طباش مع أبو ضمة .. وبرغم أن أم خميس فرحت بالتكليف الذي عدته إقرارا من الكبير بتمام رجولتها، إلا أنها كانت خائفة، فهي لم تغادر قريتها قط، لذا؛ سارت شبه ملتصقة بطباش .. كان طباش صامتا طوال الطريق، لم تكن ممازحة أبو ضمة (التي تعودها) أمس حول عدم إنجابه هي ما يشغله، بل كان يفكر: هل نظرت زوجته - مثل الباقيات - إلى أم خميس؟؟ هل تعايره يوما بما رأت؟؟ أتصيبهم لعنة آل خميس؟؟ هل ينجب حينئذ؟؟ أم يظل عاقرا وتتزوج زوجته بأخرى وتجلب له ضرة يخدمها؟؟ أغضبته الفكرة بشدة فصاح فجأة: أه يا بنت الكلب!! .. ألجمت الشتيمة أم خميس فجذبته من شعره: هي مين دي اللي بنت كلب يا طباش؟؟ .. هه؟؟ لم يعرف طباش بم يجيبها .. شددت من قبضتها: بتضحك يا قليل الأدب؟؟ يعني مش واجعاك؟؟ تحب أطلع شعرك في إيدي؟؟ هه؟؟ .. انفجر طباش ضاحكا، ثم استدار فجأة ورفعها بذراعيه القويتين وجرى بها .. صرخت أم خميس ورفست وحاولت عضه في كتفه ولكن أعصابها خانتها، قالت وهي تضحك: نزلني نزلني!! .. ومقام المسربي ما هانزلك إلا أما تقولي أنا مرة .. بعينك .. خلاص خليكي .. عدلت من وضعية جسدها وأسندت مرفقها على كتفه ثم قالت: خليني يا أخويا، أنت اللي إيدك هتوجعك.

*****

أعطى أبو خميس قطعة كيكة للطفلة ورص بعض القطع الأخرى داخل علبة بلاستيكية، ضبط الطرحة على رأسه وخرجا، أغلق الباب، تخيل شغف النسوة لمعرفة طريقته في صنعها وابتسم، خطوات ثم تذكر أنه لم يغلق أنبوبة البوتاجاز، ناول ضمة علبة الكيك وعاد إلى الدار، ضحك وهو جالس في الحمام، قال يعلموني الرقص قال؟؟ وديني لأوريكوا الرقص اللي بجد يا حريم مقلحفة يا ولاد القحابي!! قالها في سره وبصق، في الطريق، كاد يهرش في الذي كان، إلا أن عينا الطفلة نبهته لما سيفعل، شد العباءة اللاميه السوداء فوق مؤخرته ليحرر اللباس الملتصق بها ثم ضبط الطرحة التي انزلقت للخلف وواصلا السير.

*****

خرج خميس مبكرا من المدرسة، تفاجأ باختفاء باعة الهدايا الذين يحضرون في مثل هذا اليوم ويفترشون الأرض ببضاعتهم الرخيصة (حـُلي مقلدة، زجاجات عطور صغيرة، مناديل قماشية في علب بلاستيكية ... إلخ) كذلك لم يجد باعة الدوم والحرنكش وحب العزيز والعسلية وبراغيت الست والبخت المقيمون أمام المدرسة، تكرر الأمر في القرية، فاترينة عم مبروك ومحل بشاي البقال مغلقان، بدت القرية موحشة ومقبضة، تخيل الأهل في بيوتهم يفتحون هدايا أولادهم ويأكلون الحلويات التي صنعتها الأمهات، فطير مشلتت وعسل، كيكة، لقمة القاضي، شق على خميس أن يكسر بخاطر والديه في هذا اليوم، فهما لم يقصرا معه في أي شيء، قرر الذهاب إلى المحطة، فحتما سيجد جوارها دكانا مفتوحا يشتري منه هدية عيد الأم، ولكن الخواء ذاته وجده هناك، رأى قطارا يتحرك، تردد لحظات، ثم قفز داخله، كانت تلك المرة الأولى التي يستقل فيها القطار ويغادر قريته، جلس وحيدا في العربة، منكمشا وخائفا من أن يراه أحدهم ويخبر والديه، وضع حقيبته الثقيلة جانبه، ثم تذكر أنه يخفي نقوده داخل المقلمة، فحملها ثانية على ظهره وهو يتلفت حوله.

*****

كان الأسطى نـُصحي حلاق القرية الأبكم، وبفعل الزمن والصنعة قد اختزل اللغة كلها في بضع إشارات مفهومة، تماما مثلما اختزل الحلاقة في قَصة شعر واحدة لم يغيرها أو يبدلها طوال ثلاثين عاما، قَصّة واحدة للجميع بلا استثناء، بشرا، حميرا، وأغناما، ربى الرؤوس جميعها على الانحناء والاستسلام دون أدنى مقاومة أو اعتراض، مع الوقت أصبحت حلاقة الأسطى نـُصحي "تريد مارك" لأهل القرية، يعرفهم بها أهل القرى والبلاد المجاورة. في البداية، كانت جملة مثل: البلد اللي ما تعرفش أهلها من حميرها أو سِماهم على رؤوسهم، كفيلة بإشعال الشجار والمعارك لشهور، ثم أخذ الحنق يخمد تدريجيا، إذ تبينوا أن حميتهم الرعناء لم تورثهم سوى المزيد من القتلى وحرائق المحاصيل وسرقات الماشية وكساد التجارة وفساد الأخلاق والذمم وزيادة الفقر والبؤس. تاليا؛ خفت الغضب والاستياء شيئا فشيئا، حتى أصبح أهل القرية أنفسهم من يستهزىء بها، كان ذلك أيسر عليهم من تغيير عاداتهم وأنفسهم. لاحقا تناسى أهل القرية (أو نسوا بالفعل) اسمها الأصلي وأطلقوا عليها "بلد الحمير"، وصار سبهم وإهانتهم عُرفا واجب الاتباع لمن أراد التودد إليهم وكسب رضائهم. وهكذا استطاع الأسطى نـُصحي حلاق القرية الأبكم بفعل الزمن والصنعة وبضع إشارات مفهومة أن يجعل من حلاقته بطاقة هوية وجواز سفر لحالقها حول العالم بأسره.

ما أن ظهر أبو ضمة والأسطى نـُصحي بحقيبته الجلدية السوداء الصغيرة من خلف الشونة، حتى بدأ أطفال القرية الغناء بقيادة سامي بوستة الذي كان يزمر بينما يركب دراجته المتهالكة:

بُص .. شوف .. نـُصحي هيعمل إيه

بُص .. شوف .. نـُصحي هيعمل إيه

هيطاهر الولية والفرجة مجانية

ما تجيبش معاك أبونيه

أبونيه أبونيه أبونيه

بُص .. شوف ..

*****

لو تسيبك م المدعوق اللي مضيع عليه فلوسك وعافيتك حالك هينصلح .. كانا قد وصلا مدخل البلد، منحنيا يمشي طباش يحمل الخروف فوق كتفيه، يسمعها ولا يرد .. مش حرام عليك تقسى على خيرية وتسم بدنها كل شوية؟؟ الخلفة دي حاجة بتاعة ربنا لا بإيدك ولا بإيدها، صدقني مراتك أصيلة وغلبانة وبتحبك .. وضع طباش الخروف على الأرض وجلس، دفن رأسه في فروته الكثيفة وبكى، بكى كثيرا، جدا، وكأنما اكتشف البكاء لأول مرة، وقفت أم خميس حائرة لا تدري ماذا تفعل، كانت أول مرة ترى فيها رجلا يبكي، همت باحتضانه .. طب والنبي أنا قلت كده برضه، قالها أبو ضمة الذي ظهر أمامهما فجأة .. مسح طباش وجهه بكف يده، ودون أن يرفع رأسه رد في حزن: قلت إيه يا أبو العريف؟؟ .. قلت أن قلبك رهيف وهيصعب عليك دبح الخروف، قالها وهو ينظر بجانب عينه إلى أم خميس .. تذكر طباش كل شيء: الكبير، الخروف، الطهور. فشعر بأسى حقيقي تجاه أم خميس .. مين قال؟؟ احنا قعدنا بس نريح شوية وكنا قايمين، ردت أم خميس .. حدجه طباش بحقد، رمقه أبو ضمة بشراسة .. جذبت طباش من يده ليقف وقالت: يا للا يا طباش زمان الناس واقفة مستنيه .. أمم والله يا أم خميس، ثم التفت إلى طباش وهو يلاعب له في حواجبه: أمم.

*****

قبل أن ينعطف يسارا إلى وجهته، رأى أبو خميس جمهرة كبيرة في الجهة المقابلة للترعة، تماما عند الخـُص، يا ساتر يا رب، غريق ده ولا إيه؟؟ تأبط علبة الكيكة، رفع ذيل العباءة قبالة صدره، وأنطلق يعدو مستطلعا الأمر، اهتزاز صدره المكتنز فقط (لا الجنين في أحشائه)، ذكره بما يرغب دوما في نسيانه: يا فضيحتي!! أسدل العباءة سريعا على جسده وتجمد في مكانه من شدة الخجل. انحنت ضمة تجمع قطع الكيك المفتتة من على الأرض، كانت تلتقط القطع الكبيرة وتنفخ فيها وتلتهمها وتضع الفتات داخل العلبة البلاستيكية. نظر إليها وابتسم، تذكر خميس، تطلع ثانية صوب شجرة الجميز، رأى نفسه يرفع خميس إلى أغصانها ويتركه يتأرجح، بينما تجلس زوجته أسفل الشجرة خائفة من أن يسقط الولد، وفي النهاية تستسلم لضحكاتهما وتشيح بيدها وهي تجهز الغذاء. ماذا حدث؟؟ ولماذا؟؟

*****

(1)

عينا ماء، فراتان، أهدابهما من نخيل، مكحولتان ببضعة بيوت من طين وقش، يرسم حاجبيهما حقول وخمائل ذوات أفنان، بطرفيهما برجا حمام كوشمان. يفرقهما طريق ترابي ناعم وجدولا صافيا، متحاذيان. شرقا الجبل، غربا المقابر.

*****

(2)

أنشئت محطة قطار في البلدة، على رصيفها الحجري لافتة معدنية بيضاء، كتب عليها بخط أسود جميل "العينين"، اسمها، كما ينطقه أهلها باللغة العامية.

*****

وفد غراب، لم يقابل بترحاب في أشجار البلدة، كما طرد من برجي الحمام، لم يسمح للغريب إلا بالوقوف فوق لافتة المحطة. دأب الغراب على الحضور كل صباح، ينظر في تحدي إلى طيور البلدة على الأشجار، ثم يتغوط في منتصف اللافتة تماما، ويطير وهو ينعق ساخرا.

*****

(3)

خرج لتوه من السجن، أراد مكانا لا يعرفه فيه أحد، يستأنف فيه حياته، من القطار لفت انتباهه اسم غريب لبلدة: "العيانين". بخفة يده المعهودة، سرق حقيبة النائم بجواره، وهبط من القطار. غريبا وأبكما يتجول بحقيبة حلاق صغيرة في بلدة ريفية، لن يكون شاغله الأول اسمها، إلا أن شيئا أخر قد لاحظه نـُصحي حينئذ في البلدة: ما كل هذه الغربان الكثيرة جدا؟؟

*****

(7)

سال الكحل (بنايات أسمنتية) حول العينين، رمدها غشاها ثم عماها، طغى القيح على الحاجبين، لم يذر فيهما خضارا إلا والتهمه، برجا الحمام؛ دُكا في فورة دينية بعد أن أصبحا وكران لراغبي المتعة الحرام وتناول المخدرات، العينان تم فقؤهما بعد أن طفحتا بشتى أنواع الجثث قبل أن يردما مع الجدول الذي أضحى مصرفا. اختفت قصّة الأسطى نـُصحي بعد وفاته، وانتشرت عوضا عنها قصّات أكثر غرابة بين الجنسين يستحيل معها التمييز بينهما، كثر إجهاض الرجال: عزمهم، نخوتهم، رجولتهم، وكثر ختان الإناث: عفتهن، إرادتهن، أنوثتهن، حدث كل ذلك، ويحدث، تكرر، ويتكرر، علانية، دون أن يلتفت أحد إلى الغربان التي تعمل بدأب.

بلدة؛ غيّر الغراب اسمها بمؤخرته، وغيره الأسطى نـُـصحي الأبكم بيديه، ومسخها أهلها إلى حي عشوائي يقتات على قاطنيه، لن يخبرك أحد قصتها، ليس لأنها لم تحدث، ولكن لأن أحدنا لا يريد التذكر.

*****

(6)

في اليوم التالي، كان هناك قطارا يتحرك، داخله أسرة صغيرة، وبينما وقف الابن ينظر خارج الشباك في جرأة وسرور، كانا والداه يتأملان في خجل وأسى رسما لأسرة سعيدة تتناول الغذاء أسفل شجرة جميز.

*****

تعليقات

  1. عبقرية ومرعبة بنفس الوقت! الله يا أستاذ

    ردحذف
  2. أحمد نصر
    :))
    تسلم يا أحمد على الدعم والتشجيع، ربنا يكرمك يا أستاذنا
    :)
    شرفتنا يا غالي

    ردحذف
  3. بجد بجد .. أستاذ ورئيس قسم والله

    ربنا يديم عليك نعمة الإبداع اللهم أمين

    :-)

    ردحذف
  4. βent Pasha
    :))
    مش ناسي تعبك معايا فيه، تسلميلي ويبارك لي فيكي ويفرحك زي ما فرحتيني بتعليقك الجميل
    :)

    ردحذف
  5. انا منبهرة يا شريف حقيقي
    اولا اسلوبك يليق جدا انه يتبروز في كتاب ...
    ممكن تعمل مجموعة قصصية

    ثانيا القصة رهيبة ... كمضمون
    والاسلوب عاجبني اوي .. بحب التفاصيل الصغيرة .. وانت ماشاء الله عليك متوصي في التفاصيل

    برافو عليك .. هايل
    :)

    ردحذف
  6. بـت خـيـخـة وأي كـلام
    :))
    يادي النور يادي النور
    :))
    ربنا يجبر بخاطرك يا خيخة ويبارك لك ويسترك ويفرح قلبك زي ما فرحتيني بتعليقك الجميل ودعمك.
    أنتوا الأحسن والله وبنتعلم منكم
    :))
    شكرا لزيارتك الكريمة يا خيخة،، شرفتينا
    :))

    ردحذف