خطاب الرجل الأحمر الأخير
* الزعيم سياتل (١٧٨٠ ـ ١٨٦٦) - ترجمة هاني المصري
أثناء ما كانت أمريكا بتواجه مشاكل العبودية وتجارة الرقيق في ولاياتها الجنوبية وبتستعد لحربها الأهلية .. كان الرئيس الرابع عشر "فرانكلين پيرس" بيحاول يشتري أراضي آخر قبائل الهنود الحمر في أقصي شمال الولايات المتحدة الغربي عند ولاية "واشنطون .. وبعت رسالة لزعيم القبيلة .. علي يد حاكم الولاية "إسحاق إنجالز ستيڤنز" بيوعده بمحمية تأوي أفراد القبيلة مقابل التخلي عن منطقة النفوذ التقليدية .. وكان زعيم القبيلة "سياتل" (اللي اتسمت علي اسمه مدينة سياتل عاصمة الولاية) من محبي السلام .. ورفض القتال ضد الرجل الأبيض .. خصوصاً أنه كان عارف تبعات القتال ضد الأوروبيين المستعمرين .. "سياتل" كان قبل - حقناً للدماء - أنه يدخل في دين الأوروبيين (المسيحية الكاثوليكية) في سن متقدم .. لكنه كان محتفظ بديانته البدائية الأصلية في الفترة اللي باتكلم عنها .. وفي المقابلة الرسمية مع المحافظ (حاكم الولاية) يوم ١١ مارس ١٨٥٤ .. خطب زعيم آخر قبيلة من الصيادين و جامعي الثمار بلغته الأصلية .. اللي دونها المترجمين بلغة هندية أكثر انتشاراً (الشينوك) .. وترجمت للإنجليزية فيما بعد .. (ملحوظة: لما بيتكلم عن "زعيم واشنطون الكبير" بيقصد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية) وده نص الخطاب :
"إن زعيم واشنطن الكبير يقول لي في رسالته، أنه يريد أن يشتري بلادنا ..
ويقول لي أنه صديق، وأنه يكن لي مودة عميقة. ما ألطف زعيم واشنطن الكبير، لاسيما أنه في غنى عني وعن صداقتي .. لكننا سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير، فنحن نعرف أننا إذا لم نبعه بلادنا فسوف يجيئنا الرجل الأبيض مدججا بسلاحه وينتزعها ..
ولكن؛ كيف نستطيع أن نبيع أو نشتري السماء ودفء الأرض؟ ما أغرب هذه الأفكار. كيف نبيع طلاقة الهواء؟ كيف نبيع حباب الماء ونحن لا نملكها؟
كل شبر من تراب هذه البلاد مقدس عند شعبي و كل خيط من ورق الصنوبر، كل شاطئ رملي، كل مدى من الضباب في غياهب الأحراش .. كل حشرة تمتص ما تمتص أو تطن .. كله مقدس في ذاكرة شعبي وتجربته مع الحياة!
النسغ الذي يسيل في الأشجار يجري بذكريات الإنسان الأحمر .. موتى الإنسان الأبيض ينسون مهدهم عندما يمشون بين النجوم .. أما موتانا فأبداً لا ينسون الأرض الطيبة لأنها أم الإنسان الأحمر .. نحن منها، وهي منا.
الأزهار العاطرة أخواتنا .. الغزال والحصان والنسر العظيم كلهم أخوتنا .. القمم الصخرية ، ندي المروج، ودفء جسد الحصان، كلها من هذه الأسرة الواحدة .. إذن فحين يقول زعيم واشنطن الكبير أنه يريد أن يشتري بلادنا،إنما يسألنا ما لا يطاق.
زعيم واشنطن الكبير يقول في رسالته أنه يريد أن يشتري بلادنا، وأنه سيهبنا مطرحاً يلمنا، نعيش فيه سعداء، وأنه سيكون أبا لنا .. وأننا سنكون أبناءً له ... لذا؛ سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير حول شراء بلدنا .. علماً بأنه عرض لا يطاق!
لأن أرضنا مقدسة… هذه المياة التي تشع وهي تجري في السواقي والأنهار ليست مياه؛ إنما دماء أجدادنا. وإذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر أنها مقدسة… وقل لأبنائك إنها مقدسة .. كل طيف يتراءى في صفاء مياه البحيرات ينبؤك عن ذكريات شعبنا وتاريخه. وما تهمس به المياه هو صوت جدي، هذه الأنهار إخوتنا، إنها تطفئ ظمئنا، وتحمل مراكبنا، وتطعم أطفالنا وإذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر وعلم أبناءك إن هذه الأنهار إخوتنا .. وعليك أن تحبها كما تحب من ولدته أمك.
ينهزم الإنسان الأحمر أمام زحف الإنسان الأبيض مثلما ينقشع ضباب الجبال أمام شمس الصباح .. لكننا نرى رماد آبائنا مقدساً، وقبورهم بقيعاً مقدساً. وهكذا نرى الهضاب والأشجار، ونعتبر هذه البلاد قسمتنا .. ونعرف أن الرجل الأبيض لا يفهمنا! تستوي هذه الأرض عنده والأرض المجاورة، لأنه الغريب الذي تسلل في ظلمات الليل فنال من هذه الأرض كل ما تمنى، أنه لا يرى الأرض ويتركها وراء ظهره ولا يعبأ. أنه يسرق الأرض من أبنائها ولا يعبأ. هذه قبور آبائه ومهاد أبنائه منسية .. وها هو ينظر إلى أمه السماء فلا يراها إلا سلعة تسرق أو تباع كالأغنام والخرز .. إن جشعه يلتهم الأرض فلا يغادرها إلا صحراء!
لا يترك هذا الرجل الأبيض حيث يحل ويرحل شبراً من أرض دون ضجيج .. لم يبق لديه مكان لسماع حفيف الأوراق وتفتحها في الربيع، أو لسماع طنين أجنحة الحشرات. ولكن، لربما إنني متوحش .. لا أفهم. إن الضوضاء تصم الأذنين .. وماذا يتبقى للحياة حين يعجز الإنسان عن سماع صرخة طائر السبد .. أو يصغي في أعماق الليل لنقاش الضفادع حول البركة .. لكن لربما إنني إنسان أحمر، لا أفهم.
الهنود يفضلون الريح العذب وهي ترمح فوق بركة المياه، ورائحة الريح المعشقة بمطر الظهيرة أو المعطرة برائحة الصنوبر. الهواء عند الإنسان الأحمر ثمين، فكل ما على الأرض يتنفس منه .. الحيوان والأشجار والبشر كلهم يتنفسون من نفس واحد. أما الإنسان الأبيض فيبدو أنه لا يعرف أنه يتنفس .. وكأنه رجل مات منذ أيام .. كل ما فيه بليد حتى النتانة. ولكن إذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر أن الهواء ثمين عندنا، وأن روح الهواء تتغلغل في كل من يتنفس منه .. إن الريح التي وهبت جدنا الأكبر أول شهيق هي التي استردت منه زفيره الأخير! أن على هذه الريح أن تمنح أبناءنا روح الحياة فإذا بعناك بلادنا فاجعلها حراماً، وقدسها كأنها مقام يحج إليه الرجل الأبيض ويتذوق فيه الريح المحلاّة بأزهار المروج.
وإذن .. فسننظر في عرض شرائك بلادنا، وسيكون لنا شرطاً واحداً إذا قبلنا ببيعها: أن يعامل الرجل الأبيض حيوانات الأرض كما يعامل إخوته
لربما إنني متوحش ولا أفهم، لكنني شاهدت ألف جاموس منتن في البراري قتلها الرجل الأبيض من قطار عابر .. لعلي متوحش ولا أفهم كيف أن هذا الحصان الحديدي المدخّن أعظم في عينيه من الجاموس الذي لا نقتله إلا لكي نبقى على قيد الحياة.
ما الإنسان بدون هذه الحيوانات؟ إذا انقرضت فسوف يموت من توحش روحه. ما يصيب الحيوانات سرعان ما يصيب البشر، فكل الأشياء متمازجة.
لابد أن تعلم أبناءك أن أديم الأرض تحت أقدامهم من رفات أجدادنا! بذلك يحترمون الأرض. علمهم ما علمنا أولادنا أن هذه الأرض أمنا .. وأن المكروه الذي يصيبها سوف يصيب أبناء الأرض! .. إذا بصق إنسان على الأرض فإنما يبصق على نفسه.
هذا ما نعلم؛ إن الأرض لا تعود إلى الإنسان، بل هو الإنسان يعود إلى الأرض. هذا ما نعلم: كل الأشياء متمازجة كما الدم الذي يوحد العائلة. كل الأشياء متمازجة .. ما يصيب الأرض سوف يصيب أبناء الأرض. الإنسان لا ينسج عنكبوت الحياة بل هو خيط في هذا النسيج. وما يفعله للنسيج يفعله بنفسه.
لكننا سننظر في عرضكم أن نذهب إلى المطرح المخصص لشعبي لنعيش وحدنا بسلام. لم يعد يهم أين نمضي بقية حياتنا إنها معدودة، بضع ساعات إضافية، بضع شتاءات .. ثم لن يكون هناك أطفال من هذه الشعوب العظيمة التي عاشت يوماً على هذه الأرض، وها هي ذي شراذم ضئيلة تتسكع في أعماق الأدغال .. لن يكون هناك أطفال يبكون على قبور بشر كانوا ذات يوم مثلكم أقوياء طافحين بالآمال. ولكن لماذا أبكي زوال شعبي؟ إن القبائل لا يصنعها إلا الرجال. أما الرجال فيجيئون ويرحلون مثل أمواج البحر.
حتى أنت أيها الرجل الأبيض الذي تمشي مع ربك وتحاكيه صديقاً لصديق لن تنجو من هذا المصير. ولعلنا في النهاية أخوة .. وسوف نرى.
أعلم شيئاً واحداً قد يكتشفه الرجل الأبيض يوماً؛ أعلم أن إلهي وإلهه واحد .. إنكم تعتقدون أنكم تملكون هذا الإله مثلما إنكم تريدون أن تملكوا أرضنا. أنه إله الإنسان، وقد وسعت رحمته الإنسان الأحمر والإنسان الأبيض .. أن هذه الأرض غالية عنده. وأن إيذاء الأرض لابد أن يثير غضب خالقها. لسوف تمضي أيها الإنسان الأبيض .. وربما ستمضي قبل غيرك. هيا أمعن في تلويث فراشك ولسوف تختنق يوماً في قمامتك!
لكنك - ولحكمة لا يعرفها إلا الإله الذي جاء بك إلى هذه البلاد - أعطاك سلطاناً على الأرض وعلى الإنسان الأحمر. إن هذا المصير ما يزال لغزاً عندنا
أين الأيكة؟ ولّت
أين النسر؟ اختفى
ما معنى أن تقول وداعاً للصيد وللحصان الرشيق ؟
أنها نهاية الحياة وبداية مغالبة الموت.
وإذن .. سننظر في عرضك أن تشتري بلادنا! .. فلئن رضينا فلكي نأمن على أنفسنا في ما وعدتنا به من مطرح نعيش فيه. هناك ربما ، سوف نعيش أخر أيامنا وحينما يزول أخر إنسان أحمر فوق الأرض ، ولا يبقى منه إلا ظلال سحابة تعبر البراري .. ستظل هذه الشطآن و الغابات مسكونة بروح شعبي.
وإذن إذا بعناك أرضنا فأحبّها كما يحب الوليد خفقان قلب أمه
وإذا بعناك أرضنا فأحبّها كما أحببناها .. واستوصٍ بها خيراً كما استوصينا .. واحتفظ من أرضنا بصورة لها مثلما كانت يوم أخذتها
وبكل ما أعطيت من سلطان، وكل ما فيك من عقل وقلب: استوصٍ بأرضنا وصنها.
أحبّها كما يحبنا الله جميعا.
إنني أعلم إن إلهنا وإلهكم واحد، وأن هذه الأرض غالية عليه. وأعلم أن الرجل الأبيض أيضاً لن يفلت من يد المصير .. وفي النهاية لعلنا إخوان. وسوف نرى.
أننا سنتفكر في عرضكم ملياً، ثم ننبئكم بما نقرر. لكننا إذا كنا لنقبله فإنني أضع شرطي الأول هنا والآن:
ألا تنكروا علينا حق القدوم، دون إزعاج وعن طيب خاطر منكم، لنُلِم بقبور أسلافنا وأصدقائنا وأبنائنا.
إن كل جزء من هذا الثرى مقدس في عين شعبي .. كل سفح تلة .. كل واد وكل غيضة .. كل مكان هنا قدسته حادثة سعيدة أو حزينة في الأيام الخوالي التي طواها الزمان .. وحتى الصخور التي تبدو وكأنها تتمدد بكماء مهيبة وهي تسح العرق تحت الشمس على شاطيء البحر، كلها تمور بذكريات الأحداث التي تتصل بأقدار شعبي.
والتراب، هذا الذي تقفون الأن عليه، يستجيب بحب أكبر لدوس أقدام أبناء شعبي أكثر مما لأقدامكم، لأن مزاجه دم أسلافنا، ولأن أقدامنا العاريات تفهم لمسته الحانية. والرجال الجسورون، والأمهات المحبات، والعذارى ذوات القلوب السعيدة، والأطفال الصغار الذين عاشوا هنا ومرحوا لفصل قصير.
كل هؤلاء الذين طوى النسيان أسماءهم، سوف لن يكفوا عن عشق هذه القفار الكئيبة، وسوف يلقون التحية على الأرواح الغامضة التي تعود في المساءات مثل الظلال وعندما يطوي العدم الرجل الأحمر الأخير، وتصبح ذاكرة قبيلتي محض أسطورة تدور بين الرجال البيض، فإن هذه السواحل سوف تغص بالموتى من أبناء عشيرتي الذين لا يحيط بهم بصر.
وعندما يظن أبناءُ أبنائكم بأنهم وحدهم في الحقول، في المخازن والدكاكين، على الطرقات العريضة أو حين يلفهم سكون الغابات التي بلا دروب، فإنهم لن يكونوا أبداً وحدهم، ولن يجدوا في الأرض الفسيحة كلِّها معتزلاً. وفي الليل، حينما يلف الصمت مدنكم وقراكم حتى تخالونها خلواً من الحياة، فإنها ستكون محتشدة بأصحاب الدار العائدين الذين ملؤوا هذه الأرض الجميلة ذات مرة .. والتي لا يكفون عن حبها .. الرجل الأبيض لن يكون أبداً وحده .. فليكن الرجل الأبيض عادلاً إذن وليرأف بشعبي، لأن الموتى ليسوا أبداً بلا حول .. هل قلت موتى؟ .. ليس ثمة موت .. ثمة فقط تبديل عوالم."
أثناء ما كانت أمريكا بتواجه مشاكل العبودية وتجارة الرقيق في ولاياتها الجنوبية وبتستعد لحربها الأهلية .. كان الرئيس الرابع عشر "فرانكلين پيرس" بيحاول يشتري أراضي آخر قبائل الهنود الحمر في أقصي شمال الولايات المتحدة الغربي عند ولاية "واشنطون .. وبعت رسالة لزعيم القبيلة .. علي يد حاكم الولاية "إسحاق إنجالز ستيڤنز" بيوعده بمحمية تأوي أفراد القبيلة مقابل التخلي عن منطقة النفوذ التقليدية .. وكان زعيم القبيلة "سياتل" (اللي اتسمت علي اسمه مدينة سياتل عاصمة الولاية) من محبي السلام .. ورفض القتال ضد الرجل الأبيض .. خصوصاً أنه كان عارف تبعات القتال ضد الأوروبيين المستعمرين .. "سياتل" كان قبل - حقناً للدماء - أنه يدخل في دين الأوروبيين (المسيحية الكاثوليكية) في سن متقدم .. لكنه كان محتفظ بديانته البدائية الأصلية في الفترة اللي باتكلم عنها .. وفي المقابلة الرسمية مع المحافظ (حاكم الولاية) يوم ١١ مارس ١٨٥٤ .. خطب زعيم آخر قبيلة من الصيادين و جامعي الثمار بلغته الأصلية .. اللي دونها المترجمين بلغة هندية أكثر انتشاراً (الشينوك) .. وترجمت للإنجليزية فيما بعد .. (ملحوظة: لما بيتكلم عن "زعيم واشنطون الكبير" بيقصد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية) وده نص الخطاب :
"إن زعيم واشنطن الكبير يقول لي في رسالته، أنه يريد أن يشتري بلادنا ..
ويقول لي أنه صديق، وأنه يكن لي مودة عميقة. ما ألطف زعيم واشنطن الكبير، لاسيما أنه في غنى عني وعن صداقتي .. لكننا سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير، فنحن نعرف أننا إذا لم نبعه بلادنا فسوف يجيئنا الرجل الأبيض مدججا بسلاحه وينتزعها ..
ولكن؛ كيف نستطيع أن نبيع أو نشتري السماء ودفء الأرض؟ ما أغرب هذه الأفكار. كيف نبيع طلاقة الهواء؟ كيف نبيع حباب الماء ونحن لا نملكها؟
كل شبر من تراب هذه البلاد مقدس عند شعبي و كل خيط من ورق الصنوبر، كل شاطئ رملي، كل مدى من الضباب في غياهب الأحراش .. كل حشرة تمتص ما تمتص أو تطن .. كله مقدس في ذاكرة شعبي وتجربته مع الحياة!
النسغ الذي يسيل في الأشجار يجري بذكريات الإنسان الأحمر .. موتى الإنسان الأبيض ينسون مهدهم عندما يمشون بين النجوم .. أما موتانا فأبداً لا ينسون الأرض الطيبة لأنها أم الإنسان الأحمر .. نحن منها، وهي منا.
الأزهار العاطرة أخواتنا .. الغزال والحصان والنسر العظيم كلهم أخوتنا .. القمم الصخرية ، ندي المروج، ودفء جسد الحصان، كلها من هذه الأسرة الواحدة .. إذن فحين يقول زعيم واشنطن الكبير أنه يريد أن يشتري بلادنا،إنما يسألنا ما لا يطاق.
زعيم واشنطن الكبير يقول في رسالته أنه يريد أن يشتري بلادنا، وأنه سيهبنا مطرحاً يلمنا، نعيش فيه سعداء، وأنه سيكون أبا لنا .. وأننا سنكون أبناءً له ... لذا؛ سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير حول شراء بلدنا .. علماً بأنه عرض لا يطاق!
لأن أرضنا مقدسة… هذه المياة التي تشع وهي تجري في السواقي والأنهار ليست مياه؛ إنما دماء أجدادنا. وإذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر أنها مقدسة… وقل لأبنائك إنها مقدسة .. كل طيف يتراءى في صفاء مياه البحيرات ينبؤك عن ذكريات شعبنا وتاريخه. وما تهمس به المياه هو صوت جدي، هذه الأنهار إخوتنا، إنها تطفئ ظمئنا، وتحمل مراكبنا، وتطعم أطفالنا وإذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر وعلم أبناءك إن هذه الأنهار إخوتنا .. وعليك أن تحبها كما تحب من ولدته أمك.
ينهزم الإنسان الأحمر أمام زحف الإنسان الأبيض مثلما ينقشع ضباب الجبال أمام شمس الصباح .. لكننا نرى رماد آبائنا مقدساً، وقبورهم بقيعاً مقدساً. وهكذا نرى الهضاب والأشجار، ونعتبر هذه البلاد قسمتنا .. ونعرف أن الرجل الأبيض لا يفهمنا! تستوي هذه الأرض عنده والأرض المجاورة، لأنه الغريب الذي تسلل في ظلمات الليل فنال من هذه الأرض كل ما تمنى، أنه لا يرى الأرض ويتركها وراء ظهره ولا يعبأ. أنه يسرق الأرض من أبنائها ولا يعبأ. هذه قبور آبائه ومهاد أبنائه منسية .. وها هو ينظر إلى أمه السماء فلا يراها إلا سلعة تسرق أو تباع كالأغنام والخرز .. إن جشعه يلتهم الأرض فلا يغادرها إلا صحراء!
لا يترك هذا الرجل الأبيض حيث يحل ويرحل شبراً من أرض دون ضجيج .. لم يبق لديه مكان لسماع حفيف الأوراق وتفتحها في الربيع، أو لسماع طنين أجنحة الحشرات. ولكن، لربما إنني متوحش .. لا أفهم. إن الضوضاء تصم الأذنين .. وماذا يتبقى للحياة حين يعجز الإنسان عن سماع صرخة طائر السبد .. أو يصغي في أعماق الليل لنقاش الضفادع حول البركة .. لكن لربما إنني إنسان أحمر، لا أفهم.
الهنود يفضلون الريح العذب وهي ترمح فوق بركة المياه، ورائحة الريح المعشقة بمطر الظهيرة أو المعطرة برائحة الصنوبر. الهواء عند الإنسان الأحمر ثمين، فكل ما على الأرض يتنفس منه .. الحيوان والأشجار والبشر كلهم يتنفسون من نفس واحد. أما الإنسان الأبيض فيبدو أنه لا يعرف أنه يتنفس .. وكأنه رجل مات منذ أيام .. كل ما فيه بليد حتى النتانة. ولكن إذا قررنا أن نبيعك بلادنا فاذكر أن الهواء ثمين عندنا، وأن روح الهواء تتغلغل في كل من يتنفس منه .. إن الريح التي وهبت جدنا الأكبر أول شهيق هي التي استردت منه زفيره الأخير! أن على هذه الريح أن تمنح أبناءنا روح الحياة فإذا بعناك بلادنا فاجعلها حراماً، وقدسها كأنها مقام يحج إليه الرجل الأبيض ويتذوق فيه الريح المحلاّة بأزهار المروج.
وإذن .. فسننظر في عرض شرائك بلادنا، وسيكون لنا شرطاً واحداً إذا قبلنا ببيعها: أن يعامل الرجل الأبيض حيوانات الأرض كما يعامل إخوته
لربما إنني متوحش ولا أفهم، لكنني شاهدت ألف جاموس منتن في البراري قتلها الرجل الأبيض من قطار عابر .. لعلي متوحش ولا أفهم كيف أن هذا الحصان الحديدي المدخّن أعظم في عينيه من الجاموس الذي لا نقتله إلا لكي نبقى على قيد الحياة.
ما الإنسان بدون هذه الحيوانات؟ إذا انقرضت فسوف يموت من توحش روحه. ما يصيب الحيوانات سرعان ما يصيب البشر، فكل الأشياء متمازجة.
لابد أن تعلم أبناءك أن أديم الأرض تحت أقدامهم من رفات أجدادنا! بذلك يحترمون الأرض. علمهم ما علمنا أولادنا أن هذه الأرض أمنا .. وأن المكروه الذي يصيبها سوف يصيب أبناء الأرض! .. إذا بصق إنسان على الأرض فإنما يبصق على نفسه.
هذا ما نعلم؛ إن الأرض لا تعود إلى الإنسان، بل هو الإنسان يعود إلى الأرض. هذا ما نعلم: كل الأشياء متمازجة كما الدم الذي يوحد العائلة. كل الأشياء متمازجة .. ما يصيب الأرض سوف يصيب أبناء الأرض. الإنسان لا ينسج عنكبوت الحياة بل هو خيط في هذا النسيج. وما يفعله للنسيج يفعله بنفسه.
لكننا سننظر في عرضكم أن نذهب إلى المطرح المخصص لشعبي لنعيش وحدنا بسلام. لم يعد يهم أين نمضي بقية حياتنا إنها معدودة، بضع ساعات إضافية، بضع شتاءات .. ثم لن يكون هناك أطفال من هذه الشعوب العظيمة التي عاشت يوماً على هذه الأرض، وها هي ذي شراذم ضئيلة تتسكع في أعماق الأدغال .. لن يكون هناك أطفال يبكون على قبور بشر كانوا ذات يوم مثلكم أقوياء طافحين بالآمال. ولكن لماذا أبكي زوال شعبي؟ إن القبائل لا يصنعها إلا الرجال. أما الرجال فيجيئون ويرحلون مثل أمواج البحر.
حتى أنت أيها الرجل الأبيض الذي تمشي مع ربك وتحاكيه صديقاً لصديق لن تنجو من هذا المصير. ولعلنا في النهاية أخوة .. وسوف نرى.
أعلم شيئاً واحداً قد يكتشفه الرجل الأبيض يوماً؛ أعلم أن إلهي وإلهه واحد .. إنكم تعتقدون أنكم تملكون هذا الإله مثلما إنكم تريدون أن تملكوا أرضنا. أنه إله الإنسان، وقد وسعت رحمته الإنسان الأحمر والإنسان الأبيض .. أن هذه الأرض غالية عنده. وأن إيذاء الأرض لابد أن يثير غضب خالقها. لسوف تمضي أيها الإنسان الأبيض .. وربما ستمضي قبل غيرك. هيا أمعن في تلويث فراشك ولسوف تختنق يوماً في قمامتك!
لكنك - ولحكمة لا يعرفها إلا الإله الذي جاء بك إلى هذه البلاد - أعطاك سلطاناً على الأرض وعلى الإنسان الأحمر. إن هذا المصير ما يزال لغزاً عندنا
أين الأيكة؟ ولّت
أين النسر؟ اختفى
ما معنى أن تقول وداعاً للصيد وللحصان الرشيق ؟
أنها نهاية الحياة وبداية مغالبة الموت.
وإذن .. سننظر في عرضك أن تشتري بلادنا! .. فلئن رضينا فلكي نأمن على أنفسنا في ما وعدتنا به من مطرح نعيش فيه. هناك ربما ، سوف نعيش أخر أيامنا وحينما يزول أخر إنسان أحمر فوق الأرض ، ولا يبقى منه إلا ظلال سحابة تعبر البراري .. ستظل هذه الشطآن و الغابات مسكونة بروح شعبي.
وإذن إذا بعناك أرضنا فأحبّها كما يحب الوليد خفقان قلب أمه
وإذا بعناك أرضنا فأحبّها كما أحببناها .. واستوصٍ بها خيراً كما استوصينا .. واحتفظ من أرضنا بصورة لها مثلما كانت يوم أخذتها
وبكل ما أعطيت من سلطان، وكل ما فيك من عقل وقلب: استوصٍ بأرضنا وصنها.
أحبّها كما يحبنا الله جميعا.
إنني أعلم إن إلهنا وإلهكم واحد، وأن هذه الأرض غالية عليه. وأعلم أن الرجل الأبيض أيضاً لن يفلت من يد المصير .. وفي النهاية لعلنا إخوان. وسوف نرى.
أننا سنتفكر في عرضكم ملياً، ثم ننبئكم بما نقرر. لكننا إذا كنا لنقبله فإنني أضع شرطي الأول هنا والآن:
ألا تنكروا علينا حق القدوم، دون إزعاج وعن طيب خاطر منكم، لنُلِم بقبور أسلافنا وأصدقائنا وأبنائنا.
إن كل جزء من هذا الثرى مقدس في عين شعبي .. كل سفح تلة .. كل واد وكل غيضة .. كل مكان هنا قدسته حادثة سعيدة أو حزينة في الأيام الخوالي التي طواها الزمان .. وحتى الصخور التي تبدو وكأنها تتمدد بكماء مهيبة وهي تسح العرق تحت الشمس على شاطيء البحر، كلها تمور بذكريات الأحداث التي تتصل بأقدار شعبي.
والتراب، هذا الذي تقفون الأن عليه، يستجيب بحب أكبر لدوس أقدام أبناء شعبي أكثر مما لأقدامكم، لأن مزاجه دم أسلافنا، ولأن أقدامنا العاريات تفهم لمسته الحانية. والرجال الجسورون، والأمهات المحبات، والعذارى ذوات القلوب السعيدة، والأطفال الصغار الذين عاشوا هنا ومرحوا لفصل قصير.
كل هؤلاء الذين طوى النسيان أسماءهم، سوف لن يكفوا عن عشق هذه القفار الكئيبة، وسوف يلقون التحية على الأرواح الغامضة التي تعود في المساءات مثل الظلال وعندما يطوي العدم الرجل الأحمر الأخير، وتصبح ذاكرة قبيلتي محض أسطورة تدور بين الرجال البيض، فإن هذه السواحل سوف تغص بالموتى من أبناء عشيرتي الذين لا يحيط بهم بصر.
وعندما يظن أبناءُ أبنائكم بأنهم وحدهم في الحقول، في المخازن والدكاكين، على الطرقات العريضة أو حين يلفهم سكون الغابات التي بلا دروب، فإنهم لن يكونوا أبداً وحدهم، ولن يجدوا في الأرض الفسيحة كلِّها معتزلاً. وفي الليل، حينما يلف الصمت مدنكم وقراكم حتى تخالونها خلواً من الحياة، فإنها ستكون محتشدة بأصحاب الدار العائدين الذين ملؤوا هذه الأرض الجميلة ذات مرة .. والتي لا يكفون عن حبها .. الرجل الأبيض لن يكون أبداً وحده .. فليكن الرجل الأبيض عادلاً إذن وليرأف بشعبي، لأن الموتى ليسوا أبداً بلا حول .. هل قلت موتى؟ .. ليس ثمة موت .. ثمة فقط تبديل عوالم."
تعليقات