أسيـــر المحاذاة
** طـفـــلاً
السير فوق الأصوب موازياً للصواب
كنت مرغماً على السير فوق الأصوب موازياً للصواب منهياً عن الخطأ .. كأنني معصوماً منه .. أحفظ قصار سور القرآن الكريم دون فهمها .. أقلد والدي في الصلاة لأرضيه .. في السجود أرفع رأسي لأتسكع بعيناي فوق مؤخرات المصلين!! .. وأجاهد كي لا أضحك .. كنت أخشى أن يراني الله مبتسماً فيمسخني قرداً كما أفهموني .. تمر الأيام .. اصطحب شقيقي الأصغر – رحمه الله – إلى المسجد .. فأجدني أوبخه عقب الصلاة على ضحكة فلتت منه أثناء السجود .. يعاتبني صائحاً (أنا لسه صغير ومش باعرف أصلي) .. أندم على إنني لم أضحك حينما كنت في مثل عمره!! .. تذكرت إنني أيضاً لم أكن خاشعاً في صلاتي .. بل كنت استمتع بمراقبته .. أترى والدي كان يفعل ذلك معي؟؟ .. لم لا؟؟
إلى الأن لست أدري سبب إصرار الأهل (البشر) أن يكون ابناءهم ملائكة؟؟
لم أكن أعلم عن الأقنعة شيئاً بعد!!
** مــراهـقـاً
السير فوق الصواب محاذياً للخطأ
تركت الأصوب تمرداً وعناداً وإستكباراً وجهلاً .. واكتفيت بالسير فوق الصواب .. محاذياً للخطأ .. اختبيء وراء نجاحي الدراسي .. غايتهم .. المقابل المعنوي لأموالهم .. كنت مجبراً على دفع ضريبة فشلهم في تحقيق أحلامهم .. مشفقاً عليهم من شماتة أقاربهم فيهم!!
(مش مطلوب منك غير إنك تذاكر وتنجح وبس!! .. فيه ناس أقل منك يتمنوا يعيشوا العيشه اللي أنت عايشها دي!! .. أنت أصلك بتاكل في قته محلوله ومش عارف القرش بييجي إزاي!! .. فيه ناس بتذاكر على عواميد النور في الشارع!! .. هو الفالح فالح من يومه!! .. هو فلان ده أحسن منك في إيه؟؟ .. اللي بيطلعوا الأوائل دول عندهم مخ وأنت لأ؟؟ .. احنا ما كانش حد بيقول لنا ذاكروا!! .. عشان كنا حاسين بأهالينا!!)
كنت أحاول منفرداً أن أصنع نفسي بنفسي .. مع جهلي التام – حينئذ – ما أنا .. أو ماذا أريد على وجه التحديد!! .. كنت أريد الحرية لا أكثر .. تغريني حماقتي بالإندفاع نحو الخطأ .. يجذبني الخوف من الفضيحة إلى الصواب .. فأقبله متحسراً .. كالذي يبتلع الحصى على جفاف الريق!! .. تعرفت على أصدقاء عمري وقتها – وإلى الأن - على نفس شاكلتي .. كنا طيوراً بلا حناجر .. أدمتنا أقفاص الأهل .. فكنا نختلس لحظات للتغريد .. ولكن بلا أصوات!!
بدأت أقنعتي تنبت في هدوء تتسلل إلى روحي خلسة .. تتزامن مع نمو شاربي!!
** شـــابـاً
السير فوق الخطأ موازياً للصواب
كان الصواب قد ضاق بي وعليّ .. كان قد يأس من إنتظار عودتي .. كنت أواعده ولا أوعده .. صوناً للعشرة .. وحنيناً للنقاء .. وخوفاً من الإحتماء بمظلة الفشل .. التي لن تقيني أمطار التأنيب النفسي اللا متناهي .. انهيت دراستي .. فأتممت بذلك آخر مراحل الجهل والتغييب الإجباري .. نصف عمري ضاع هباءاً منثوراً .. صفعني الواقع بلا هوادة .. بيد ٍ لا شبهة رحمة فيها .. خفف من وطأتها علىّ .. بعض أشباه التجارب أيام المرحلة الجامعية .. المال .. راعي الحرية الأول .. أين تراه يختبيء؟؟ .. و أين هم الأهل الأن؟؟
(يا ابني الشغل مش عيب!! .. اللي عاوز يشتغل بيشتغل!! .. احنا كده عملنا اللي علينا وزيادة!! .. هانصرف عليك لحد إمتى؟؟ .. ما أنت كنت بتشتغل أيام الكلية .. هاتيجي دلوقتِ وتقعد؟؟ .. اشتغل أي حاجة مؤقتة لحد ما ربنا يفرجها!! .. هو يعني كل واحد معاه شهادة اشتغل بيها؟؟ .. هي البلد فيها شغل عشان تتقمر؟؟ .. سفر؟؟ .. سفر إيه يا ابني وغربة إيه؟؟ .. أنت جي في الوقت اللي بنتعكز عليك فيه وعاوز تسيبنا وتسافر؟؟ .. أمال مين اللي هايربي أخوك ده لو جرى لي حاجة؟؟ .. يبقى واحد مات والتاني اتغرب؟؟ .. وأمك دي لو أنا جرى لي حاجة ما تلاقيش راجل جنبها؟؟ .. أنت لسه صغير والمستقبل قدامك!! .. إسعى أنت بس واحنا هانساعدك ونقف جنبك!! .. وبعدين ما أنت هاييجي عليك وقت وهاتتجوز!! .. ولا مالناش نفس نفرح بيك وبعيالك؟؟)
من أين أبدأ؟؟ .. وماذا أريد؟؟ .. وكيف سأصل إلى ما أريد؟؟ .. ومتى؟؟
كنت أقف وحيداً .. عارياً .. بائساً .. يشاهدني العالم .. فيضحك في عهر .. الأقارب يتحسسون عورتي بلا خجل .. يشوهون أحلامي بزيف مشاعرهم الطيبة .. صرت أهرب منهم إلى المجهول .. احتمي به .. كالرضيع .. فيهدهدني تارة .. ويصدمني تارة .. تعلمت الكثير بمفردي .. أدهشتني قدراتي على التواءم مع الظروف .. جنيناً أنا كنت في رحم القدر .. لا أحمل للغد شيئاً .. ميتاً لا أشعر بتعاقب الزمن عليّ .. فحتماً سأبعث لأواجهه .. كنت أعزل .. إلا مني .. وبعض الذكريات!!
الأقنعة بدأت تخفي ملامحي .. فتمتد يداً من أشلاء روحي .. تنزعها .. ويهمس لي صوت من بعيد: لازلت أنت .. ولذا أغرد بداخلك!!
** رجـــلاً
السير فوق الخطأ محاذراً للصواب .. مترقباً للخطيئة
الصواب خلفي لا ألتفت إليه .. لم يعد فاتحاً لشهيتي .. لم أزهد فيه بعد .. ولكني أعلم إنه أبدي ... ينتظر .. وينتظر .. وينتصر دوماً في النهاية .. كما في أفلامنا الممثلة .. إنما الخطيئة .. مختلسة .. طائشة .. مجنونة .. كنسمة الصيف الهاربة!!
ما أحلى الخطيئة .. إذا غفرناها لأنفسنا .. وما أصعب الصواب عندما يكون إدعاء!!
في المنزل : الأهل مؤهلون تماماً للموت .. بعدما استنفذوا رصيدهم المتوارث من الفشل .. لا أحد صار مهتماً بك .. الكل .. يهتم .. بنفسه .. فيك.
في الطريق: تتولى ملابسي إخفائي عن فضول الآخرين .. الغير مبالين بستر عوراتهم الزجاجية .. فأقذفهم برصاص نظراتي علهم يخجلون .. اطيء النصائح بحذائي كأعقاب السجائر .. الوحدة تساندني في ضعفي .. حليفة فشلي .. والأقرب إلى ذاتي الخاوية!!
الأن تبدلت الأدوار أصبح الصواب خلفي .. أطارده - أحياناً - فيبتسم ويتلاشى!! .. أمامي .. تتراقص الخطيئة بغنج .. تأتيني على طبق من ذهب .. فألتفت عنها .. زهداً حيناً .. وخوفاً أحياناً كثيرة!! أتعجب لمن سبقوني!! .. أتراهم نجحوا في السير على أحد الطريقين؟؟ الصواب أوالخطأ؟؟ الأصوب أوالخطيئة؟؟ .. هل الدوي المصاحب لنجاح أحدهم هو دليلاً على مدى إخلاصة في السير على دربه؟؟ .. هل لا زال بإمكانهم نزع الأقنعة؟؟ .. أم تراهم نزعوا ضمائرهم منذ زمن؟؟
الحب – المال – الوطن ... فعل – فاعل – مفعول به!!
(ليست السعادة في المال) .. جملة الأغنياء البغيضة .. سأجعلها هكذا: (ليست السعادة في المال إلا إذا كان كثيراً) .. هكذا أفضل .. لا أرضى بأنصاف الحلول .. أو أنصاف المشاعر .. لا استعمل معها مباديء الرياضيات في جبر الكسور!!
الحب حب .. المال مال .. الجنس جنس .. الوطن وطن .. الموت موت!!
أرغمت على الأصوب .. فتمردت على الصواب .. فشلت في الخطأ .. وأخشى النجاح في الخطيئة!!
ماذا لو فشلت فيها؟؟ .. أطرد السؤال من رأسي!! .. كي لا يغريني الغرور بالتجربة!!
مالك الحزين .. رفيقي في الليل .. هو وحده الذي يراني بلا أقنعة .. بلا أوراق توت .. حنجرتي الضائعة منذ أيام الصبا .. ضميري اليقظ .. في جسدي الميت!!
لا أعلم الأن أين أقف؟؟
فقد أصبحت أسيـــرا ً للمحـاذاة
أسير بمحاذاة الحب .. الأصدقاء .. الأشخاص .. الأماكن .. الأرصفة .. الذكريات .. السنين .........
أدنو وابتعد .. أبكي وابتسم .. أحيا بالذكريات الهاربة .. وأموت من ذِكر الحاضر!!
وحدة مالك الحزين
يعرفني جيداً .. يأتيني في الليل مغرداً .. لي وحدي:
لازلت أنت .. ولذا أغرد بداخلك!!
***
تعليقات