لأنه لم يعد هناك ما يقال

 

استحضار مدينة - محمد المنسي قنديل

 

استحضار مدينة فيه القليل من الأسى .. وكثير من شجن الذكريات القديمة .. فالمدن لا تغيب. نحن الذين نرحل ونصاب بنزيف في الذاكرة ونبحث عبثا عن لحظة صلدة من الزمن لا تتسرب من بين أصابعنا ولا تذروها الريح .. والاستحضار هنا هو تجميع لكل خلايا الذاكرة التالفة وبعث الحياة فيها من جديد .. بصمة المدينة واحدة لا تتكرر .. وتفاصيل حياتها نهر جار لا تعود مياهه .. وعندما أسأل نفسى ـ بعد أن شاهدت العديد من المدن - ماذا تشبه مدینتي .. ماذا تشبه تلك المدينة الصغيرة المزدحمة الراقدة في قاع الدلتا الرطب الأخضر والتي تسمى المحلة الكبرى .. أي المدن وجدتها قريبة منها .. وأي الملامح مشتركة بينها وبين الأخريات؟ .. لا أعرف .. ذات مرة .. كنت أتجول في طرقاتها أنا والقاص الكبير ادوار الخراط في زيارته الوحيدة للمحلة قال لي: أنها تشبه مدن الهند. ولكن لم أذهب إلى الهند. لذلك بقيت المحلة لا توجد في أي مكان آخر سوى في المحلة.

إن المرء دائما في حاجة إلى مدينة تشبه تضاريسها تجاعيد جلده ويختلط فيها الطين بذكريات الطفولة والطرقات بدورات العصافير والصباحات الباردة في الشتاء والطرقات المظلمة في آخر الليل ولحظة السكون النادرة بطزاجة الأحلام .. المرء يبحث دائما عن مدينة تكون صالحة للحلم .. ويا حبذا لو أنها صالحة للعيش .. تفاصيل المدينة هي الخلايا الحية للذكريات .. وهي في حاجة دائما إلى إعادة اكتشاف دائم .. وفي كل مرة كنت أحاول الكتابة عنها اكتشف أنني لم أرها جيدا وأنه من العسير أن أكتب عنها كما أكتب عن أي مكان. كان علي أولا أن أحس بدبيبها الحي في داخلي .. لا يمكنك أبدا الكتابة عن شيء ميت .. وهكذا فأنني كنت أحاول أن أعطي المدينة جزء من حياتي الخاصة قبل محاولة استنطاق الجدران الصامتة .. كنت دائما أؤمن أن الأدب الجيد هو جغرافيا جيدة .. علينا أن نرصد حركة البيوت والشوارع والبشر الذين يعيشون فيها حتى نستطيع أن نخرج بهذه الجغرافيا الحية التي تسمى الأدب .. والمدن لا تعطي سرها إلا للذين يشغفون بتفاصيل حياتها الصغيرة .. عندما كنت صغيرا كان أبي يضيق بأسئلتي الكثيرة .. كنت أسأل عن أي شيء تقريبا .. الشوارع .. اللافتات .. الناس .. وعندما كبرت لم تغادرني تلك العادة ـ ما أن أركب القطار - حتى أظل اتأمل المعالم التي يمر بها في فضول غريب .. إنها مشكلة .. اكتشاف سر حركة الكون خلف تفاصيل الحياة اليومية المتكررة.

للمدينة إيقاع خاص في نفسي. أولى هذه الإيقاعات هو النول الخشبي الذي كان يعمل عليه أبي منذ الصباح ومنذ أن ولدت .. منذ أن بدأ الكون حركته .. صوت مكتوم يتكرر .. خليط من اصطدام النول بخيوط الحرير بحفيف المكوك وهو يمرق وصوت السعال الخافت والبسمة وأحيانا القليل القليل من الغناء الحزين. وسط القاعات الرطبة نصف المظلمة كانت تتألق خيوط الحرير اللامعة مثل أشعة من شمس باهتة ضلت طريقها إلى أقبية اليدوى التي لا ترحم .. يجب أن تكون هذه الأقبية نصف مظلمة .. نصف رطبة حتى لا تجف خيوط الحرير وتنقصف. وليس مهما أن تنقصف أعمار الصنايعية أو يسكن البرد بين أضلاعهم أو يعانون من زكام دائم وتبقى أنوفهم حمراء طوال العام من البرد والغيظ. كان أبي يمارس أقدم صنعة عرفتها المدينة .. وربما الصنـعة الثالثة التي عرفتها البشرية بعد رعي الغنم والزراعة .. كانت المدينة كلها تنبض بإيقاعات هذه المهنة .. وعندما ولدت أنا كانت هذه المهنة تموت .. وخيل لي أيضا أن المدينة تموت .. ولم أتصور أن هناك بعثــــا آخر في مكان آخر .. كنت أراقب قاعة أبي الواسعة .. كان هو يجلس في مقدمتها يقرأ جريدة "المصري" .. كنت أحب العلم الأخضر ذي الهلال في مقدمتها .. بينما بقية الصنايعية يعملون ويسألونه عن أخبار الدنيا .. ثم بدأ الصنايعية يتناقصون واحدا بعد الآخر .. وكل يوم يتوقف نول جديد .. تهبط الخيوط الحريرية من عليه ويفقد بهائه ويتحول  إلى كومة من الخشب الأجرد .. ثم لم يعد هناك أي صنايعي واحد. وخيم على القاعة صمت الموت الغريب .. وخلع أبي جلبابه وبدأ يهبط هو للعمل خلف النول .. لم يعد يشتري جريدة "المصري" .. ربما لأنه لم يكن لديه الوقت الكافي لقراءتها أو الثمن الكافي لشرائها أو لأن الجريدة قد توقفت في النهاية .. كانت هي أيضا بقايا عصر مضى .. كان هناك المصنع الضخم الذي أقيم في شرق البلد والذي جذب الجميع إليه .. لقد كرهته منذ البداية .. وكلما رأيت أبي وحيدا .. منكفئا حانقا .. ضيق الرزق .. شاعرا بالعجـز والمرارة .. متألما من الزكام .. ازدادت كراهيتي لهذا الغول البعيد. كتبت عن ذلك في قصة "البوار" وكتبته في قصة "رحلة المعلم منسي وولده محمد" .. في القصة الأولى حكيت عن ذلك اليوم الذي ذهبنا فيه إلى سوق الثلاثاء وجلسنا وسط السوق ننتظر التجار ولم يأت أي تاجر .. وكتبت في القصة الثانية عن رحلتنا إلى الأرياف من أجل بيع قطعة واحدة من القماش فعدنا بالقماش ناقصا دون أن نبيع قطعة واحدة .. وكتبت القصة الثالثة عن ذلك اليوم الذي تحولت فيه كل تلـك الأنوال الباهرة التي صنعت أجمل الأقمشة إلى كومة من الخشب وحملتها أمي على عربة "كارو" إلى سوق الجمعة حيث بعناها بسعر ثمن خشب الوقود .. ولكني مزقت هذه القصة الأخيرة .. لم اجرؤ على كتابتها بعد ذلك كانت قاسية "علي" وعلى أبي .. وعلى بقايا العمر الجميل الذي تبدد وسط رطوبة القاعات. وظللت لوقت طويل أشاهد احتضار هذه الصنعة وخيل إلي أحيانا أن نول أبي هو آخر نول في الوجود وأن ضياعه يعني ضياع العالم .. أن يتوقف قلب المدينة عن الوجيب إذا توقفت دقاته .. عندما كنت أحاول أن أساعده كانت يدي الرقيقة التي لم تمسك إلا القلم والمشرط تمزق خيوط الحرير .. بينما كانت يده الكبيرة الخشنة البارعة تلتقط الخيوط الممزقة وهو يهتف بي: خيوط الحرير كالنساء .. لا تحب إلا من يحبها .. ولم أفهم .. وكان يضحك مني أحيانا عندما نكتشف سويا أنني لست صنايعيا وإن كنت أعيش وسطهم وأعاني من مشاكلهم.

لقد أضاف أبي إلى المدينة عنصرا أسطوريا آخر .. عندما كان يقوم بنصب "مزدية" جديدة وجدته يقرأ الفاتحة لسيدنا "شيث" أصغر أبناء سيدنا نوح .. ولعله كان أسوأهم حظا. فقد كان صنايعيا فقيرا صنع أول نول له من ألياف النخيل .. ومنذ ذلك الحين وأنا أرى ذلك النبي الغريب وهو جالس مستكينا في القاعات الرطبة .. كان يعشق الكتب كما يعشق خيوط الحرير .. وهكذا بدأت أقرأ في نهم شديد .. وأصبح للمدينة إيقاع آخر غير إيقاع الألوان .. انفتح ثقب صغيــر وبدأ العالم يتسرب إلى الأعماق .. لم أعد وحيدا .. طفلا هزيلا عاجزا عن لعب الكرة الشراب .. أعادت الكلمات تشكيلي من جديد .. وعندما رأيت المدينة رأيتها مدينة مختلفة نقطة صغيرة في مجرات واسعة وممتدة .. وسألني أبي عن سر سعادتي فأخبرته وهنا عرض علي أغرب اقتراح .. قال لي: لماذا لا تأتي إلى القاعة وتقرأ لي هذه الكتب بصوت مرتفع؟ سوف نستفيد سويا .. وهكذا عرفت طريقي إلى باعة الكتب القديمة وأحضرت الكتــاب الأول وجلست على مقعد خشبي أمام أبي وبدأت أقرأ وهو يواصل العمل ويهز رأسه .. لم أكن أدري أهو يهز رأسه من وقع الكلمات أم تبعا لحركة المكوك .. المهم أنني بدأت أقرأ .. وحين رفعت رأسي مرة أخرى وجدت النبي "شيث" جالسا هو الآخر يهز رأسه .. وهكذا امتلات القاعة الرطبة النصف مظلمة بالفرسان والنبلاء .. والعشاق الودودين .. والأشرار الخفاف الدم .. تناثرت شموس ونجوم وشذرات من أحلام فوق قطع القماش وتداخل إيقاع النول مع الكلمات وأصبحت أقسم الجمل تبعا لهذا الإيقاع وليس تبعا لمعنى الكلمات حتى الحواري تغيرت .. تبعثر فيها السيدات اللاتي يلبسن شارة الثورة الفرنسية وهن يجلسن إلى الدواليب لتدور الخيوط .. وزاحم القراصنة الصنايعية في الجلوس على المقهى وشربوا القرفة بنفس القوة التي كانوا يشربون بها الروم .. وخرج موكب قطر الندى من بيت النقيب المتهدم ولم نمض به خطوات حتى وقع في مجرور المجاري الذي كان مفتوحا وطاف الرشيد متنكرا .. ولعب دارتنيان بالسيف .. وأخبأ الزهرة القرمزية في المقابر وجاء روكامبول يبحث عن عرق آخر الأسبوع وبكيت الأخوات برونتي من الفاقه والعوز .. وعميت عيون فاطمة لأن زيت "أم العواجز" شح .. وحين مات عباس الحلو دون ذنب جناه انخرطنا جميعا في البكاء.

لقد تعلمت أن الكلمة يجب أن تمس القلب .. هذا القلب الصلد البالغ التحمل الذي لا يهتم بالجوع ولا العوز ولكن تدخل فيه الكلمة الأسيانة كأنها جــرح وكأنها بلسم في الوقت نفسه. عندما بدأت أكتب أولى حروفي قال لي أبي خائفا .. "الكتابة أيضا حرفة الفقراء" .. وكان غريبا أن يكون الفقراء قادرين على إشاعة كل هذا القدر من البهجة. وبعد قليل اكتشفت أنهم الوحيدين القادرين على ذلك .. في بهجة غير مكلفة .. وقلما وبعض الخيال والكثير من الحب .. الفقراء لا يملكون ترف البغضاء والتفضيل .. لقد أردت أن أبعد قصصي عن نفسي جاهدا .. حاولت أن أمدها ببهجة خفية من حياة أخرى ومن مدينة غير مدينتي .. ولكنني كنت موجودا بشكل مؤلم .. حاولت أن أكف عن الصراخ .. أو على الأقل أصرخ بصوت مكتوم .. لم يكن أبي يريدني أن أصرخ .. ولم أره أبدا صارخا .. لقد تحمل كل شيء بصبر وجلد .. ينتظر نهاية اليوم .. ثم يمد يده المعروقة ليقبض يوميته ويتجول في جلبابه "السكروتة" الأصفر، يعاني من نفس الزكام الدائم وينظر حالما  إلى الترعة الضحلة التي تشق المدينة .. لم يكن يملك مواعظ ولا أحكام .. كان يكفيه فقط أن يجلس في مجلس الصنايعية يناولهم "المواسير" ويشرب معهم الشاي والمعسل ويسعل في وقار ويتغاضى عن النكات البذيئة ويدير وجهه إذا مرت إمرأة سمينة ويحلم مثلهم بخيوط الحرير الملونة وهي تتألق في ضوء الشمس ويهتف ضارعا في نهاية كل أسبوع: "بلاش خصم يا معلم .. أجل السلفية" .. ويتسلل بجوارى إذا جاء المساء فيندس في فراشي فأجده مقرورا ويحدثني عن رحلة الطوفان الأخيرة وكيف أن سفينة الصنايعية جاءت إلى هذا المكان فوجدت النخيل خاليا من البلح فلم يكن أمامها إلا أن تغزل الليف وتنتظر الثمار القادمة ولا زالوا ينتظرون .. كان أبي يقول لي: إذا خطوت داخل القاعة فاخطو بالقدم اليمنى ربما كان شيث نائما .. ولم أكن في حاجة إلى النصائح فقد كنت الوحيد الذي أراه تقريبا بشكل مستمر .. وعندما أقاموا أول نول للنسيج في المدرسة في حصة الأشغال جاء شيث وقادني من داخل الفصل واجلسني عليه وجعلني أعمل علیه کأنني صنایعي محترف وقال المدرس متعجبا: "يا سلام! حتى المهن تورث" .. ولكن أبي بكى وأخذ علي عهدا ألا ألمس المكوك وألا أجلس على النول مهما طال الزمن .. وبكى شيث موافقا أبي: وسرنا معا في شوارع المدينة المليئة بالطين حتى مكتبة البلدية وهناك أجلسني على أول مقعد وأعطاني أول كتاب وجلس أمامي صامتا واكتشفت أنه كان يجهل القراءة ولكنه حمل نوله الأخير على كاهله مثل صليب منخور وقال لي: إذا أردت التعليم فلا توجد فرصة للتراجع ولا للتعويض .. وكان علي أن أقرأ وأعمل وأبقى في الصفوف المتقدمة حتى لا أدفع مصاريف العام الدراسي .. لم تكن الأمور تسمح بالمبالغ المجمدة .. مبالغ نثرية يمكن تدبيرها وكان مبلغا كبيرا يأتي فجأة هكذا لم يكن أحد قادرا على احتماله حتى ولا نبي الله شيث. كل ما فعله نبي الله أنه جلس بجانبي يذاكر على اللمبة الجاز وكان سعاله يزعجنی ويؤنسني ولم تنقطع بيننا الصلة إلا بعد أن فزت بجائزة نادي القصة وأخذت ستين جنيها دفعة واحدة وميدالية ذهبية زائفة .. أخذ واحد من أصدقائي الميدالية .. وأخذت أنا الكهرباء إلى المنزل بواسطة المبلغ وشعر النبي شيث بالغرابة فغادر المنزل وتركني وحيدا مع مصطلحاتي اللاتينية وذكريات الموتى ولم ينس أن يترك لي زهرة شابة في الجمجمة التي كنت أذاكر عليها دروس التشريح.

أضيفت المنصورة  إلى عالمي ودخل نهر النيل والصبية الذين يختبئون في زوايا الشوارع يبيعون عقود الفل وأشجار الجهنمية بزهورها المتوهجة وهي تعدني بلحظة نادرة من دفء الدلتا .. قبل ذلك كان أبي قد باع النول الأخير وأغلق القاعة الأخيرة وقال لي: "لا أمل يا محمد حتى لو قرأنا كل كتب العالم ورحلنا إلى كل البحار" .. وسرنا سويا ذات يوم شتوي إلى أحد محالج القطن نبحث عن عمل .. وبدأت أرى نوع آخر من العمال .. أقل مرتبة من الصنايعية .. أقل مهارة .. ونظافة .. وأكثر فقرا .. كأنه لا يوجد حد أدنى للفقر .. أنهم الأنفار .. لم ينحدر أبي  إلى مستواهم. ذلك الصنايعي الماهر الذي يفهم في القطن ويقدره .. ولكنني أنا انحدرت اليهم .. كنت أحب جلساتهم الدافئة الأليفة ونكاتهم البذيئة وأحاديثهم التي لا تنتهي عن النساء .. كنت أنتشي بأغانيهم الغريبة التي كانوا يتشاركون جميعا في تأليفها .. كان هؤلاء العمال يأتون من عمق الريف المحيط بالمحلة كل يوم ويرحلون كل مساء .. ويجتازون مسافات هائلة سعيا على الأقدام وإذا تحسن الجو قليلا فضلوا النوم في العراء فوق أكياس القطن تحت السماء التي لا تحشد نجومها لهم أبدا .. عملت معهم في إجازة الصيف وإجازة نصف السنة .. وكانوا يقولون لي يا أفندى ما فائدة الكتب ما دمت لا تستطيع الاستغناء عنا؟ .. وغاظني ذلك فقرأت لهم ذات مرة "ايفانهو" للسير ولتر سكوت فانبهروا جميعا وظلوا يستحلفونني أياما طويلة أن أحكي لهم ما حدث للملك قلب الأسد مع السلطان المسلم صلاح الدين .. وأدركت أنا أن تأثير الكلمات لا يخيب أبدا .. مهما بلغت درجة التعب والفاقه فثمة مكان في القلب الإنساني لا تمسه سوى الكلمات .. أنني أحبهم هؤلاء التعساء الذين ملئوا فمي بالجبنة الحدقة والسريس وملئوا قلبى بالمرارة .. لا يتصور أحد كيف تبدو حكاياتهم مليئة بالأشياء البهيجة الملونة والمغامرات الرائعة والأحلام الفائقة الجمال .. أنه لغز آخر لم اكتشفه بعد .. نبع البهجة الغريب هذا .. من أين يأتون به .. قال لى أبي: "النول كان رقيقا بنا يا محمد .. ولكن القطن غول لا يرحم .. سوف يأكلك مني .. فارحل بعيدا" .. ورحلت رغما عني .. كنت قد رأيت الوجه الآخر من المدينة .. وكانوا ضعفاء بلا نبي حقيقي يقود خطاهم .. كانوا يجلسون كاليتامى تحت رحمة الطبيعة .. إذا أشرقت الشمس دار المحلج وكانت هناك "يومية" .. وإذا أمطرت توقف المحلج .. وتوقفت اليومية وبدأت لحظات البطالة الرهيبة .. كنت أعشق ذلك البراح الواسع الذي تتراص فيه أكياس القطن الناصع البياض الكامل البهاء وحتى بعد أن غادرت المحلج كنت أقف بعيدا لأراقبهم في سعيهم اليومي وأرى صفوفهم الطويلة أمام بوابة المحلج وهي تستجدي "سركي" اليومية .. وحتى الآن .. عندما يهطل المطر أشعر بحزن شديد لأنني أعرف أنهم قد تعطلوا وأنهم سوف يقضون هذا اليوم دون نقود ودون طعام .. وما أزال أبتهل من أجلهم حتى لا تطول أيام المطر والبطالة.

لقد جالستهم طويلا بعد ذلك .. وكنت أربهم العظام البشرية المرسوم عليها باللون الأحمر لون الشرابين وبالأزرق لون الأوردة وأشرح بلهجة غامضة وملتوية كل المصطلحات اللاتينية وأرى الدهشة على وجوههم والرعب في عيونهم والرهبة التي تعتريهم حين أطلب منهم أن يلمسوا هذه العظام .. وظللت أراهم .. في طوابير الكشف في العيادة الخارجية .. وفوق أسرة المستشفيات .. أراهم يستعطفونني بحق الصداقة القديمة التي ربطت فيما بيننا أن أخفف من آلامهم ولكن ما أكثر هذه الآلام وأشد قسوتها .. لقد غصت ورائهم ذات مرة حينما عملت طبيبا للأرياف في إحدى قرى الصعيد .. لقد أخذوني في حقول القصب وصعدوا بي في دروب الجبال وعبروا بي بحر اليوسفي المتلاطم المياه وعرفت أن الظلام ولا شيء غير الظلام هو معلم القرى وآسرها وسيدها وأن هناك لغة سرية لهؤلاء الناس الذين نسميهم أنفار أو فلاحين أو ترحيلة أو شغيلة أو أى شيء .. لغة تتخلق من طين الأرض وتسري في عروق النيل وأنهم في كل مكان يضعون بصمتهم الخاصة ويحاولون صنع حياتهم الخاصة .. لقد طفت كثيرا خلفهم لاقتناص مفردات هذه اللغة .. أرض غريبة .. وأناس غرباء .. لا تتشابه ذرة التراب مع ذرة أخرى .. ولا بصمة الوجه مع بصمة أخرى .. في جنوب الوادي يرقد الآلهة .. وجوههم سمراء كوجوهنا .. وملامحهم نفس ملامحنا ولكنهم ليسوا نحن .. فيهم جلال ضائع .. وآبهة آفلة .. وعظمة لا نعرفها .. تتناثر المقابر والمعابد كأنها لا تخشى الموت ولا التراجع ولا الهزيمة .. أما في الشمال فالأمر مختلف تماما .. على حافة البحر .. هناك قلاع قابلة دائما للسقوط .. قلعة فوق قلعة .. حصن فوق حصن .. محاولة غريبة لسد عورة هذا المكان وستر جسد هذا الوطن دون جدوى .. في الأفق ينام الآلهة .. وفي دمياط يسقط الجنود دون ثمن .. وفي الزقازيق يقف تمثال عرابي زعيم الفلاحين الوحيد ضائعا وسط زحمة المرور وروث الحمير .. وفي الإسماعيلية يورق الشجر الأخضر من دماء عشرات الفواعلية الذين ماتوا وهم يوصلون المياة الحلوة  إلى الرملة المالحة .. مسألة اكتشاف شعب في حاجة  إلى عمر كامل .. وعلينا أن نقنع منها بالمدينة الصغيرة التي عشت فيها أيامي الأولى .. والتي رأيت أوضاعها الغريبة .. رأيتها من حواري الصنايعية .. ومن شقاء الأنفار .. ومن خلال مرضى المستشفيات .. وكان علي أن أبحث فيها دائما عن أناس جدد .. ذات مرة ذهبت أنا وجار النبي زميل الدراسة وصديق الطفولة  إلى قصر الثقافة .. كنا قد بدأنا نخط أول الكلمات .. وبدأنا نتعرف على نوع جيد من الفقراء .. هؤلاء هم فنانو المحلة ومثقفوها .. ومصدر جودتهم الوحيدة هو حبهم للمعرفة وقدرتهم على الحلم.

كانوا جميعا متحلقين حول منضدة خشبية يفترسون كعادتهم قصة قصيرة أو قصيدة .. هذه المرة كانت قصة لسعيد الكفراوي وكان صبورا إلى حد كبير ودعانا نحن أيضا  إلى مائدة الإفتراس .. وهكذا بدأت رحلة أدباء المحلة .. وبدأت أتعلم كيف أحلم بصوت مرتفع مع أناس يحلمون نفس حلمي تقريبا .. كان سعيد الكفراوي هو أشدنا حماسا بطبيعة الحال .. بل وأكثرنا كتابة .. وكان يكتب القصة الواحدة عشرات المرات ويتأثر بأي رأي يقال له .. كان يمزق .. ويمزق .. ويعاود الكتابة ولم يكن هناك طموح للنشر .. كان الطموح فقط من أجل كتابة جيدة. رمضان جميل كان عميقا ومقلا .. كتب قصتين وربما ثلاثا .. كان أول واحد نشر فينا صفحة في جريدة الجمهورية وبدا أنه الوحيد المعقود عليه الأمل ولكن ذلك أفزعه فيما يبدو فكتب قصته الثانية أكثر من عشرين مرة وزاد فزعه فتوقف نهائيا عن الكتابة .. جابر عصفور كان ولا يزال أستاذا .. عيبه الوحيد أنه كان مثقفا وقارئا من الدرجة الأولى بحيث كان يكتشف على الفور مصدر أي كلمة أو رأي نستعيره من أي مصدر آخر. كانت مشكلة حقيقية في التشدق بأي شيء في وجوده. نصر حامد أبو زيد .. شاعر مقل .. كانت نواة الناقد والأستاذ الجامعي رابضة في أعماقه كانت إرادته الصلبة لا يمكن قياسها مع طيبته النادرة .. أنني أستغرب حين أراه بهذه الجدية من خلال كتبه عن التأويل والتفسير وكل هذه الأشياء .. محمد صالح كان شاعرا وناقدا من الطراز الأول .. ولم يكن يرحم حتى نفسه .. كان دائما ومن اللحظة الأولى يضع يده على العيب الذي جاهدنا طويلا في اخفائه .. أما محمد فريد فقد كان شيئا فريدا في نوعه .. اللعنة عليه .. كانت في داخله ينابيع الشعر الفياضة .. وكان يغترف منها كما يريد. ولكنه كان مهرجا "يهوى التدخين والنساء ويهزأ من أي شيء نقوله ويقول كلمات غريبة ملونة ويتركنا ويمضي. كان شاعرا كبيرا يهدر قصائده ويبددها في سفاهة غريبة. كتبت له أطول الرسائل وكنت أود أن أعنفه لعله يتعقل قليلا ولكن البنات اكتشفوه وسرقوه منا في وقت مبكر .. يبقى جار النبي .. كانوا يقولون لنا أن كلكم فاسدين .. ذهبتم  إلى أقصى الأرض وتركتموه وحيدا في المحلة .. كنا نقول .. كان باقيا حتى لا تضيع منه المحلة أيضا .. لقد بقى جار النبي .. لم يتغير كثيرا منذ أن عرفته. لم يزد وزنه جراما واحدا .. وحتى الشعر الأبيض كان مبكرا في رأسه .. ولم تتغير الأطر الخارجية لعالمه .. الناس الفقراء البسطاء الذين اغرم بهم ووهب لهم كل كلماته .. من السهل أن نتغير جميعا .. ومن الصعب أن يتغير جار وحده .. هل بقى أحد في هذه المجموعة الغريبة التي هبت على الساحة الأدبية ذات لحظة .. هل أنسى كل الذين أحاطوا بنا وكان دفئهم حارا .. حنفي كساب الذي جاء من طنطا ليرانا ويكتب عنا .. عفيفي مطر الذي فتح لنا مجلة سنابل .. عبد الفتاح الجمل وصفحة المساء .. ملامح بعيدة لزمن بعيد.

ربما كان علي أن أذكر واحدا آخر .. كان بعيدا عن هذه المجموعة ولكنه حفر في نفسي أثرا لا يزول .. محمد المخزنجي .. الجميع يعرفونه ولا يعرفونه .. لكنني .. أنا وهو .. ذات لحظة غامضة .. تشاركنا في كل شيء .. كنا نلبس نفس الأحذية .. ونقرأ نفس الكتب .. وندرس في نفس الكلية .. ونجلس صامتين الساعات .. بل الأيام الطويلة لأنه لم يعد هناك ما يقال ولكن كان يجب أن نكون معا .. لا أحد سوف يفهم ماذا سيحدث .. وعندما أعيد شريط الزمن بسرعته البطيئة اكتشف أن المودة تنشأ ألما بقدر الجروح .. ذات مرة قضينا ثلاثة أيام دون كلمة واحدة .. كنا نسير عبر شوارع المنصورة والمحلة وعشرات القرى صامتين .. كان هناك عالم واحد يجمعنا لا يحتاج  إلى كلمات .. أنه يجلس أمامي الآن وأنا أكتب هذه الكلمات .. تماما كما كان يجلس نبي الله شيث في الزمن الماضي .. لعله أخلى مكانه لمحمد المخزنجي .. كان من العسير علينا يا محمد أن نتشارك في كل شيء .. فهذا يبدو قاسيا ولا بشريا .. لا يمكن أن يخطىء الناس بيني وبينك وأن يخلطوا بيننا .. وأن يتمنوا أن نعجن لنكون شخصا واحدا وتنتهي المشكلة .. لقد دخلت أنت السجن .. وسافرت أنا بعيدا .. ثم عدت لكي نلتقي للحظة وجيزة على خط الطباشير الذي يفصل سنوات العمر ثم سافرت أنت ولا أعتقد أنه من الواجب أن نلتقي ثانية حتى لا يختلط كل شيء .. إذا عدت أنت فسوف أبحث لي أنا عن منفى آخر .. لم أعد في حاجة إلى أنبياء يحرسون خطوتي .. ولا أنت كذلك .. وليس هناك أنبياء من هذا النوع والموضوع برمته خارج عن السياق .. أن من العسير ومن المحزن أن تستحضر مدينة .. فيعني هذا أن تستحضر زمنا آخر .. وأن تخرج من زمنك الحالي .. الكتابة كلها محاولة للخروج من هذا الزمن .. إلى زمن الديمومة - الوهم - الحلم .. أنني أتذكر كل شيء كأن ذاكرتي صفحة بيضاء وكأنني مولود في التو وكأن الكون على وشك التخلق وكأن المطر على وشك التقطر وكأن الريح على وشك التأهب وكأن سفينتي قد رحلت رغما عني إلى مدينة غريبة كنت أحسب أنني أعرفها اسمها "المحلة الكبرى".

 

* أدباء من الغربية - مطبوعات الرافعي - الكتاب السابع - 1986




تعليقات