النيل ينبع من جبل المقطم - قصة: فؤاد حجازي

 


هم بالسؤال عن كيفية تناول الطعام.

أدرك المسئول ما يجول بخاطره. ابتسم وقال:

- الغشاء ينشع منه الطعام الذي يقدم هنا.

كان يثق بأنهم يعملون لمصلحته، وفي الوقت نفسه لم يفهم سبب لصق غشاء على فمه. وقال في نفسه: ربما لحكمة لا أعلمها.

وامتلأت نفسه بالتقدير، وهو يسترجع كلمات المسئول "أنت لا تدري كم كلفنا صنع هذا الغشاء من مال، وأي وقت أمضاه الباحثون في العمل، لتحصل على هذا النسيج الرقيق، بالمواصفات التي نريدها". وعندما رفع حاجبيه دهشا، نظر إليه، وقال: "نحن لا نبالي بأي تعب من أجل الإنسان". ليس من المعقول بعد ذلك أنهم يقصدون به شرا.. ؟! .. وبالتأكيد سوف يقدرون تعبه.. ؟! .. لقد دأب كمواطن غيور على التفكير في مشكلات بلاده. وعندما واجهته مشكلة "منبع النيل"، ظل مؤرقا ليالي طويلة لم يرضه أبدا أن ينبع النيل من خارج الوطن. قرأ الخرائط الجغرافية والجيولوجية لبلادنا. واطلع على كثير من الأبحاث في هذا الشأن.

امتلأت نفسه بالفرح، عندما اهتدى في بحثه إلى أن جبل المقطم مكون من أحجار رسوبية بفعل بحرنا الأبيض، في الزمن القديم. ومما ضاعف فرحه أن الجبل في قلب عاصمة البلاد. فأي توفيق حالفه لينبع النهر من داخل العاصمة.. ؟! ..

وعندما تذكر أن دولا أجنبية تقع على شطآنه، خبا الوهج وانطفأ. وبعد تفكير عميق، عاوده التألق. العبرة بوقت تكوين الجبل، وليس الآن. ففي الزمن القديم، لم تكن هناك دول. بل وعندما قامت الحضارة الأولى في وادي النيل، لم تكن هناك دول على هذا البحر، بالمعنى المتعارف عليه اليوم. وحين قامت على ساحله الشرقي، سيطرت مصر عليها.

امتلأت نفسه بالزهو، وأعلن نتيجة أبحاثه على الناس، ولقنها تلاميذه بحماس بالغ. ورغم ذلك ظل سؤال يناوشه دون أن يهتدي إلى إجابة شافية له: كيف ترك الفراعنة نهر النيل ينبع من جبال الحبشة، وهم الذين سيطروا على العالم القديم كله..؟!

ما زال السؤال يؤرقه، وتفرع منه سؤال آخر: وكيف تركت الأجيال المتعاقبة النيل يصب في بحر لم تعد مصر سيدة عليه.. ؟!

وران عليه أسف عميق.. وردد في خفوت.. يصب في بحر ليس بحرا خالصا لنا.. ياه.. كيف لم أفكر في ذلك من قبل.. أتراهم حجزوني من أجل.. كان يجب التريث في الإعلان عن حل مشكلة المنبع حتى أنتهي من مشكلة المصب..

لكن.. لماذا لم ينبهني أحد بدلا من..

وأشار لزميل من النزلاء، برغبته في الكلام. اقتاده إلى دورة المياه. نزع الغشاء عن فمه، وجعله يفعل مثله. أبلغه أنهم يهربون طعاما، يؤكل بالأسنان. وعندما أبدى تخوفه انفجر ضاحكا من سذاجته، وأخبره أنهم احتاطوا للأمر، فهم يرصدون الحراس. ويغسلون أسنانهم جيدا، بفرش نجحوا في تهريبها.

ولم ينم تلك الليلة. وفكر في عدم نزع الغشاء ثانية. فالثرثرة مع زملائه في دورة المياه، وقطع الوقت في مضغ الطعام، قد صرفاه عن التفكير في إيجاد حل لمشكلة المصب.

 

وحمد الله على تعوده الأذنين الجديدتين. فلم يعد يصغي لهواجس نفسه كالسابق. بل أن هاتين الأذنين، خلافا لما يظنه الرائي لحجمهما الكبير تجعلانه لا يسمع شيئا مما يدور حوله إلا بصعوبة.

ولكم أحس بالخجل، وهو يتذكر تذمره منهما، والمسئول يطمئنه بضحكته المتأنية، وبأنه لن يمضي وقت طويل حتى يعتادهما. وتضاعف إحساسه بالخجل، عندما علم أنهما مصنوعتان في الخارج، وأن ذلك لا يتحقق إلا بإذن خاص من مسئول على مستوى عال في الدولة الطالبة، وموافقة الجهة صاحبة القرار في الدولة الصانعة. وهما تردان في ظرف مغلق، ومختوم بالشمع الأحمر. ولا يفض المظروف إلا في حضور لجنة خاصة. وتطلع اللجنة على تحريات من جهات متعددة تجيز استعمال الشخص لهما.

 وضحك من خوفه المبهم، الذي نما في زوايا نفسه، عندما سلم أذنيه واستلم الجديدتين. فحين وقع على إيصال التسليم والتسلم، وانشغل قليلا بفحص الأذنين الجديدتين، خيل إليه أن المسئول مزق ورقة. وألقى بها في سلة المهملات. أحس برعب شل إرادته حينا. ورغم عدم تأكده من ماهية الورقة الممزقة، فقد طاف بذهنه خاطر خفي بأنه لن يتسلم أذنيه أبدا.

وزاد ضحكه وهو يتساءل: وماذا لو ظل هكذا طوال عمره.. ألم يساعده ذلك على التفكير العميق.

ألم يريحوه من ضوضاء وصخب الحياة. ألم يريحوه من سماع أحاديث وطنطنة لا معنى لهما.

ولولا ذلك، ما اهتدى إلى ضرورة أن يصب النيل في بحر عربي. فليكن البحر الأحمر. أنه بحيرة عربية ما في ذلك شك.

ولا يدري.. لم أحس برغبة طاغية في التسلل إلى دورة المياه والحديث عما توصل إليه مع زملائه.

ضحك منه أحد الزملاء وقال:

- هل نسيت أن بعض الدول التي تقع على البحر الأحمر - وإن كانت عربية - فهي على خلاف معنا..؟

- وما العمل..؟!

- نفس مشكلتي تقريبا لقد كنت سعيدا عندما ألغوا الطربوش، فهو لا يحمي من الشمس، وفكرت في ارتداء القبعة. وفي الحقيقة أني طوال شبابي كنت أستهجن الفكرة ولكن.. ماذا أفعل والشمس تؤذى صلعتي..؟! والحق أني لم أتشجع وأرتديها - وليتني ما فعلت - إلا بعد أن رأيت كاتبا كبيرا يضعها على رأسه، ويظهر في برنامج تليفزيوني. وعندما أبديت لهم هذه الملاحظة. ضحكوا منى ساخرين. بعدها فكرت في غطاء الرأس الفرعوني. وأعلنت ذلك. ولم أكتشف إلا هنا أن المنديل الفرعوني يشبه المنديل العربي الذي يضعونه تحت العقال.

 

انسحب إلى غرفته، وقد عزم على إعادة التفكير. ولشد ما أدهشه تقاعس الدول المتقدمة، عن اكتشاف حل لمنابع الأنهار.. أين كبرياؤها الوطني.. !! .. أنهار كثيرة من دول أوروبا تمر في عدة دول. ألا تستطيع كل دولة أن توقف امتداد النهر، وتجعله ينبع من داخل حدودها.. ؟! .. هل مشكلة المصب هي السبب ..؟! .. فلتبحث كل دولة عن بحيرة أو بحر. وما الحال مع الدول التي لا تطل على بحار وليست بها بحيرات. ألا تستطيع أن تنشئ بحيرات صناعية.

بحيرة.. نعم.. بحيرة.. حقا وصدقا.

من اليوم سوف يصب النيل في بحيرة المنزلة.

ولكن.. صبرا.. أنهم يجففون أجزاء منها. إذن سيصب في بحيرة إدكو. حولها مستنقعات ضحلة، تصلح لفيضان النيل العالي. كيف لم أنتبه إلى ذلك من قبل وأنا مدرس جغرافيا.. ؟! .. وأحس برغبة عارمة في تدخين سيجارة. أسرع إلى دورة المياه. سأل عن بعض زملائه، فعلم من الحارس أنهم نقلوا إلى مكان آخر. وقف خلف أحد الأبواب، ومد يده بحذر إلى ثنية الأستك في سرواله الداخلي. أخرج ورقة مالية. أطل برأسه، فوجد الجو هادئا، والحارس قد انحنى يربط حذاءه. اقترب منه. احتوت يد الحارس يده. وبعد قليل نفخ في وجهه دخان سيجارته.

 

طلب مقابلة أحد المسئولين، ليشرح له ما اهتدى إليه تفكيره. أجابوه بسرعة إلى طلبه. أشار لهم بنزع الغشاء، حتى يستطيع شرح وجهة نظره. أفهموه أنه يستطيع أن يفعل ما يحلو له. ولدهشته وجد نسيج الغشاء قد تداخل مع جلد فمه. وعندما أبصر قلما على مكتب المسئول، فكر في الكتابة، وعندئذ لحظ غشاء رقيقا قد نما بين أصابعه دون أن يشعر به.

لعب لسانه بغشاء فمه، فوجده ينجذب إلى الداخل ممتلئا بالهواء مثل "الزقزيقة". جرب الزقزقة عليها بأسنانه.

انبعث الصوت في الحجرة.

نظر إليه المسئول بلطف، وأشار له بيده مشجعا.

------------------------------

كتاب المواهب - 1985

تعليقات