حكاية عبده عبد الرحمن

 



.... وأنا رجعت أعيش مع محمد أفندي وعلي أفندي. قعدت معهما قليلا لكنهما عادا يقولان إن الأحسن لنا أن نسكن كل اثنين معا في حجرة، وفعلا نقلاني أسكن مع واحد لا أعرفه، ولكنه يعمل معنا في المصنع. 

 وكانت علاواتي ماشية، وأجري وصل إلى عشرة قروش في اليوم وتبقى معي ما يمكنني من شراء تذكرة سفر إلى دمنهور فقلت لنفسي في أجازة العيد أزور خالي، من زمن لم أره لا هو ولا أمي ولا أختي.

***

قابلني خالي بترحاب، وبعد الغذاء قال لي: "خد أمك". أدهشني كلامه قلت: "لماذا؟" .. قال: "إنها مسئوليتك فتحملها من الآن" .. قلت له: "كنت أظن أن الست امرأة خالي لا تستغني عنها" .. قال في اختصار: "أمك سوف ترتاح عندك" .. قلت له: "مرتبي عشرة قروش في اليوم" .. قال: "وماله."

فهمت من إصرار خالي أن زوجته هي التي لا تريد أمي عندها، وخالي يريد أن يرضيها كما يفعل دائماً، ولكني كنت مخطئاً في استنتاجي هذا، إذ أن أختي أخبرتني فيما بعد أن خالي متضايق لأن زوجته تعامل أمي باحتقار شديد.

***

وفعلا أخذت أمي معي في الحجرة مع شريكي. وأمي فيها عيب كبير بالنسبة لرجل فقير مثلي وأنا أعرف عيبها هذا، فهي تأكل كثيراً جداً، وبقيت طيلة رحلة العودة أفكر فيما أفعل، وكيف أكفيها حاجاتها من الأكل. لم يكن أمامي من سبيل سوى زيادة أرغفة الخبز.

شريكي في الغرفة لما رآني راجعاً بأمي معي بان عليه الغم والضيق وقال لي: "لم نتفق على أن تحضر أمك لتعيش معنا، فهي سيدة وأمر يكسف أن أتمدد وأنام قدامها، يجوز أتعرى وأنا نائم. ثم أنها كبيرة في السن وضروري أنها تشخر وهي نائمة."

ثم ترك لي الحجرة وعزل، وحتى لا يورطني في إيجارها وحدي أحضر مكانه رجلا عاملا في المصنع هو الآخر معه أمه مثلي. وسكنا في الحجرة أنا وأمي مع الرجل الجديد وأمه. بعد ذلك عزلنا نحن الاثنين بأمينا في شقة مكونة من حجرتين هو وأمه في حجرة وأنا وأمي في الحجرة الثانية.

كنت وأنا وحدي أدفع لشريكي في السكن سبعة وعشرين قرشاً في الشهر، ولما سكنت مع أمي في الشقة الجديدة بقيت أدفع أربعين قرشاً في الشهر. أمي جاءت تعيش معي سنة ۱۹۳۲ وبقيت معي إلى سنة ١٩٤٢.

***

وأول ما جاءت أمي معي كانت حياتنا صعبة من ناحية النقود لأن أجري كان عشرة قروش فكيف نعيش بها! على كل حال ساعدنا أنني امتنعت عن الأكل في اللوكاندة وصرت آكل في البيت مع أمي. صرت أتأمل ما يفعله الرجال المتزوجون لتوفير معيشة أسرهم بأجورهم القليلة، خاصة شريكي في الشقة. وجدت أنه يعتمد على أيام الأسواق في القرى المحيطة بالمحلة ليشتري منها الجبن القريش واللبن الرايب وبعض الخضر والبلح. كما ساعدنا على الحياة رخص الأسعار، ومن آن لآخر ينزل لنا قرش علاوة، وصارت أمي تطبخ لنا نحن الاثنين وتغسل ملابسنا ولكنها في عشر سنين لم تعد قادرة على عمل شيء. فصرت مضطراً إلى أن أقوم أنا بالطبخ وغسل الملابس لي ولها. ولم يضايقني الطبخ ولكن الغسيل جعلني أشعر بأني محكوم علي بالأشغال وفي بعض الأحيان كنت أشعر أن أمي تستطيع أن تساعدني في بعض الشيء ولكنها لا تريد، فأنها بعد أن خدمت كثيراً في بيت خالي أصبحت لا تريد أن تخدم في بيت ابنها، لعلها من غير أن تعي كانت تقلد زينب هانم زوجة خالي بعد أن أصبحت مثلها سيدة بيت، لكن الفارق كبير بيني وبين خالي وبين بيتي وبيت خالي. أمي مع الأسف الشديد لم تلحظ ذلك الفارق.

***

أجري وصل إلى أربعين قرشاً في اليوم. وكان يمكن أن نعيش به حياة طيبة، ولكن أمي بعد أن توقفت عن الطبخ والغسل. توليت أنا هذا العمل بدلا عنها، ثم لم أستطع أن أستمر، فعدت ثانية أنا وهي نأكل من اللوكاندة، فآتي لها بالأكل جاهزا، الغذاء والعشاء معاً لي ولها فإن حدث أن تأخرت في المصنع تأكل وحدها، فلا تعمل حسابي وتأكل كل الأكل فأبيت من غير عشاء، أبيت جائعاً. وأنا رجل شغال، واقف على رجلي ثماني ساعات قدام ماكينة دوارة لا تهمد. قلت لها كثيراً: "يا أمي لماذا تأكلين أكلي وأنت تعرفين أني لا أستطيع أن أشتري بدلا عنه؟" .. فتقول لي: "يا ابني أنسى" .. أمي تنساني! .. من إذن يفتكرني! ..  قلت لنفسي لا لا .. أحسن شيء أقسم معها بالعدل، فصرت أعطيها ريالا في اليوم وآخذ لنفسي ريالا.

في آخر السنوات العشر التي عشتها مع أمي ثقلت رجلاها وأصبحت لا تقدر على أن تنزل أو تطلع السلم، فصرت أشتري لها طاولة عيش تأكل منها، وقبل ما تنتهي أشترى لها غيرها، حتى أضمن أنها لا تجوع وأنا غير موجود.. تلقى العيش على الأقل.

***

استمر أجري يزيد حتى وصل إلى ثمانية وأربعين قرشاً في اليوم وترقيت في هذه السنين إلى مساعد أول نسيج، وأصبحت مشرفا على ثمانية وأربعين نولا، وتحت إشرافي أربعة وعشرين عاملا، كل واحد منهم واقف على نولين والنول الواحد ينتج في الوردية الثماني ساعات خمسين متراً كانت كلها من قماش الخام والبفتة، عملي أنا كان تقديم السداة وتصليح الأنوال التي تتعطل ومباشرة الإشراف على العمال في قطاعي. العمال زملائي الذين يقومون بعمل مثلي يشعرون بأنهم رؤساء مهمون، لقد أدركت ذلك فيهم، أما أنا فلم أستطع أن أربي في نفسي مثل هذا الشعور، كنت وأنا رئيس على أربعة وعشرين عاملا أتمنى لو أكون فعلا رئيساً وأعجب من أمر نفسي، فأنا مع رئيسي أشعر بارتياح وألبي طلباته في العمل بمنتهى الدقة، ولم أسمح أبداً لعلاقتي الوثيقة به أن تؤثر على طاعتي له في العمل كمرؤوس له، وكان رئيسي هو محمد أفندي فهمي. أما مع مرؤوسيّ أنا، فإني كنت أشعر بالحرج الشديد إذ ينتابني شعور غريب بأنه ليس من حق إنسان أن يعنف إنسانا آخر. إن عقلي كان يبرر لي ما يرفضه شعوري، ولكن شعوري كان دائماً أقوى من عقلي، لذلك كنت إذا أخطأ أحد العمال وبرر خطأه أجدني أميل بقلبي إلى قبول عذره معتقدا أن الإنسان يريد الخير؛ وإن ضل عنه فلعذر. رأى محمد أفندي فهمي أن هذا كلام فارغ، ولو أخذ به الناس لفسدت حياتهم؛ بل كان رأيه عكس رأيي تماماً، فهو يرى أن كل إنسان يريد أن يدلل نفسه، أن يطلقها على هواها لتخطئ كما تشاء في حق نفسه وفي حق الآخرين، وأن الذي يدفعها إلى الخير أو الصواب أمر واحد فقط هو الخوف من العقاب. لقد كان محمد أفندي فهمي رئيساً ناجحاً. ومرؤوسوه من العمال يحسبون له ألف حساب وإن أخطأ أحدهم تقبل تأنيبه له بنفس سمحة، بل إن ما أدهشني هو أنهم كانوا يحبونه راضون بالعمل معه. وهذا ما لم أجده بين العمال الذين كنت رئيسهم، فمع أني كنت قليلا ما أعنفهم، وإن أخطأ أحدهم أسرعت بإصلاح خطئه بيدي بدلا من تعنيفه وتأنيبه، مختصراً بذلك الوقت والجهد، ولكن إذا حدث ما يضطرني إلى تعنيف أحدهم فإنه لم يكن يقبل ذلك مني، ويدخل معي في مجادلات تضايقني، وتجعلني أندم على أني لم أتبع طريقي المختصر في إصلاح الخطأ. أما الذي كان يدهشني حقاً فهو أنهم كمجموعة كانوا دائماً ساخطين وكلما أحسنت معاملتي لهم وقللت من ملاحظاتي لهم عن أخطائهم كلما زاد سخطهم وتذمرهم، وكثيراً ما دفعني هذا إلى التفكير في قدرتي على أن أكون رئيساً ناجحاً، وقد سبب لي هذا ضيقاً في المصنع علاوة على الضيق الذي كنت أشعر به في البيت بسبب ما صار إليه حال أمي، فإنها بعد أن توقفت عن الطبخ والغسل امتنعت عن كنس أرضية الحجرة وأصبحت لا تتحرك من فراشها إلا لتقوم تأكل. والغريب أنه مع قلة حركتها زادت شهيتها وأصبحت تشكو لي من أن الريال لا يكفيها، بل أنها أصبحت تشكوني إلى زميلي الساكن معي وأمه، من أنى أجوعها، مع أني - يعلم الله - أبذل لها أقصى جهدي، كنت أعطيها كل قرش زيادة يأتيني حتى أصبحت تأخذ ثمانية وعشرين قرشاً وأنا آخذ الريال الباقي.. ويعلم الله أني أردت أن أقلل نصيبي عن الريال ولكن الأسعار كانت ترتفع باستمرار وحجم الرغيف يصغر ويكش باستمرار حتى أصبح رغيف واحد لا يشبعني. وقد حاولت أن أقنع أمي بأن تكف عن أن تشكوني إلى جيراننا وأني لو أنقصت كمية أكلي التي اعتدت عليها فسوف أمرض لا محالة، وهذا يهددنا بانقطاع دخلنا. ولكنها استمرت تشكوني وتشكوني.

ولم أستطع أن أفعل شيئاً. عليّ أن أحتملها، أنها أمي فلا مفر وما باليد حيلة.

***

"هي سيرة ذاتية وتاريخ طبقة تهز أعماقك ببساطتها وشاعريتها وتصدم مشاعرك بواقعيتها التي تكشف بقسوة وصدق عن معاناة عمال النسيج طوال أكثر من نصف قرن من الزمان.. فتجعلك تعيد النظر فيما عرفته عن حياة العمال المصريين ومعاناتهم وخاصة الفيالق الأولى منهم، وعن شقائهم.. أنك هنا تلمس وتستشعر وتعايش تلك المعاناة وهذا الشقاء وتلمح بذور الوعي التلقائي والأحلام المحبطة التي يحكى لنا عنها "عبده عبد الرحمن" بأسلوبه الحي الذي هو أقرب ما يكون لأسلوب الحواديت في بساطته الإنسانية وشاعريته التلقائية."

(كلمة الناشر على الغلاف الخلفي)

***

(سيذكر الأدب المصري بلا شك شخصية "عبده عبد الرحمن" عامل النسيج الذي أقامت له الكاتبة "أسما حليم" تمثالا خالدا في روايتها الجديدة، لأنها تقدم - وربما للمرة الأولى - شخصية متكاملة حقيقية المعنى والمبنى مستمدة من قلب طبقة العمال، بشكلها ومفهومها العالمي الخالد، ومستخرجة مباشرة من واقع الحياة المصرية، التي شاع أنها لا تعرف صورة ذلك البطل. 

"عبده عبد الرحمن" بطل هذه الرواية، واحد من تلك الوجوه التي تشكل معنى كلمة الملايين. وجه بلا ملامح خاصة، ولكنه ذو طابع واضح لا تخطئه العين. تدركه من أول نظرة. واحد من الذين يملأون الشوارع والأرصفة، والمحطات والأتوبيسات، يندفعون بلا حركة، ويصخبون بلا فرح .... في هذا الجزء من الرواية يقوم عالم المحلة الكبرى في أواسط هذا القرن، وثيقة فنية بالغة القيمة، وتقدم في ثناياه صورة - تكاد أن تكون الأولى في الأدب المصري - للعامل، بلا إطارات مسبقة، وبلا نظرة فوقية مستمدة من الانتماء الروحي والفكري للطبقة المتوسطة. إن عالم العمل والعمال هنا، يقدم بمعرفة موضوعية عميقة النظرة وخالصة النية.)

من كتاب: عصير الكتب (الجزء الأول) علاء الديب

***

*الصفحات: (34: 39) - حكاية عبده عبد الرحمن – أسما حليم - دار الثقافة الجديدة - 1977

تعليقات